15‏/01‏/2015

في الجليد

أنا من جيل برنامج "التيكت علينا والفيزا عليك" -السفلة! ماهي الفيزا أصعب شي-. أنا نتاج ثقافة تحث أي مواطن عربي على الهجرة لأوروبا أو أمريكا أو كندا أو انشاء الله حتى للمريخ.

أذكر اني فعلاً أردتُ أن اهاجر من اليمن في موقفين فقط. مرة عندما كنت طفلة في عمر التاسعة عندما زرنا ناس أقربائنا لنودعهم قبل ذهابهم إلى أمريكا شيكا بيكا. أذكر اني عدت الى البيت باكية، لما لا نهاجر نحن أيضا؟ لماذا لا نهرب من الفقر وجبروت والدي العنيف. 

في الموقف الثاني، كان على كِبّر. كنت على علاقة مع شاب وكنا على وشك الخطوبة، قال لي: لابد من أن نهاجر سوياً. وافقت. قال لي، "أنتِ شاطرة في الكتابة". فأمرني بأن أكتب رسالة للسفارة الفلانية ولنستعطفهم، على وعسى نصِعب عليهم. بعث الرسالة هو ولم أبُالي بأن أتابع الموضوع. بعدها بشهر إفترقنا بعد أن عنفني لفظياً وحاول أن يعتدي عليّ. صمدتُ بقوة وشراسة أمام عدائيته وفهمت أني لابد من أرفض أن اكون ضحية الظروف وأن الحقوق تُنتزع ولاتُمنح. طويت تلك الصفحة وفكرة الهجرة معها أيضاً.

ولكن كيف أنا اليوم في المهجر؟ في الجليد*؟




سؤال يصلني على صندوق الإيميلات والفيس بوك كالشلال. وهنا لاأقصدك أنت أو أنتي أو انتم من بعثتوا لي سائلين عن نصيحة: أسهل طريقة للهجرة\اللجوء في السويد. أتفهم كيف ضاقت البلاد علينا وأن الخلاص أصبح في الهجرة. كيف أستطيع أن أهاجر لسويد؟ سؤال صعب. والأصعب هو السؤال التالي: أنتي مبسوطة في السويد؟ أفكر كثيرا قبل أن أجاوب، كيف أجاوب دون أن أحطم أمال السائل\لة أو أن أمد له\ها الأمل بحياة جديدة؟ وكيف أصف السويد كجنة أو جحيم؟ كيف أجاوب وأختصر تجربتي القصيرة التي كبرت فيها ٢٠ عام؟

هذا هو العام الرابع لي في السويد. السنة الأولى كانت الأصعب، بطبيعة الحال. 

شتاء ٢٠١١ - تعرفت على سيدة كردية تتحدث العربية بلكنة عراقية مقرمشة، فلنسمي السيدة أوراس. أوراس سيدة في نهاية العشرينيات، أم لطفلة عمرها ٤ أعوام. بعد أن ضيفتني المحشي والبرياني والمخلل التي تجيد صنعه بإمتياز، في لحظة سكون، حكت لي كيف أنها أتت  ضمن عملية تهريب بشر إلى السويد من كردستان العراق وكيف أن في خلال الرحلة اللعينة تلك تناوب على إغتصابها عدة أشخاص. تقاطع نفسها وتعود بذاكرتها لتخبرني أنها لم تكترث للإغتصاب لأنها عانت من واقع زواج الصغيرات فقد زوجّتها والدتها بالقوة وهي لم تبلغ بعد. زوجها في كوردستان كان أول من إغتصبها. 

أوراس تشكر زوجها الثاني الذي تعرفت عليه في مخيم اللاجئين في السويد، فقد أنقذها من مرارة الإغتصاب المتكرر الذي تعرضت له. أوراس قضت ٤ أعوام دون جواب إيجابي من مصلحة الهجرة السويدية. لم تقبلها السويد لتكون شخص "شرعي" في البلاد. هذا الزوج الأخير هو من منح أوراس أوراق الإقامة الشرعية في السويد. بالمقابل، أوراس كانت كالخادمة عند الزوج، تقول "يضربني بالصبح وينام معايا غصب بالليل" تحكي لي أوراس،"...عموماً، خلاص هسة أنا قوية." الحمدلله أوراس تطلقت وتعيش مع بنتها بسعادة الأن. 

أيضا في نفس الشتاء، تعرفت على شابة إيرانية مذهلة، شغوفة بالفنون وصناعة الأفلام، فلنسميها نسرين. أثناء فترة الإستراحة في حصة اللغة السويدية، خرجنا الى الشارع. سرحت نسرين وهي تداعب السيجارة بين أصابعها ثم قالت: دفعت ١٥ الف دولار للمهرب لأصل إلى السويد. كان الوضع في إيران لايحتمل. إعتقلوني أكثر من مرة بسبب أفلامي. وماأدراكي مالحبس في إيران! قتلوا معنوياتي. ثم أتيت هنا وأعتقلوني. لكن للأمانة، حبس السويد فندق خمسة نجوم مقارنةً بحبس إيران." تبتسم نسرين ونصمت. "اليوم همي هو كيف أن أندمج هنا، هل تحبين فكرة الإندماج ياأفراح؟" تسألني نسرين.

بين بلدك الأم والبلد المضيف تواجه أعاصير نفسية ووجودية، فمتى لك راحت البال لتندمج؟

مايربطك ببلدك الأم مجرد محاولات إنعاش صِلاتك بمن كنت تعتبرهم أصدقاء، لقاء على الإسكايب أو إتصال على الفاير أو لايكات لمنشوراتهم على الفيس. ومنهم من تراهم يتجاهلون أستغاثاتك، متجاهلينك تماما، بل تقراء إستهزائهم بيمانيّ المهجر. أما من لغوك من قائمة أصدقائهم فهم الأقسى. خذلتهم، وطيت راسهم، لاتشرفهم، لاتمثلهم انت. تحاول ان تشرح وتبرر دون اي فائدة. هوسك هو أن لاتموت وانت مازلت غريب عن بلدك. تقرأ "يموتون غرباء" وتفهم أن هذا واقع طبيعي لأبناء اليمن السعيد.


وطنك الجليدي الجديد يختارك بعناية فائقة، فإذا ماكنت مفيد لنظامه فأهلاً بك، وماأن كنت عبء فمع ألف سلامة. شاءت الظروف أن اكون ذو فائدة. فائدة؟ كيف لك أن تُحجم حق الفرد في الوجود على الأرض بمدى فائدته؟ كيف تسمح لبني أدم أن يعيش في العلن وأن يعيش الأخر في الخفاء لأنه أتى بشكل غير قانوني؟ يعني الفقر والذل والديكاتاتورية وحمام الدم في بلداننا العربية هي القانونية؟

الشعور بالذنب لأنك من أصحاب الفائدة يطاردك كظلك. سلاحك هو أن تُحّول تلك الفائدة لخدمة الضعفاء ومن ليس لهم صوت في وجه هذا النظام العنصري الطبقي.


 هاجر ولكن حدد فائدتك. هذا النظام يراك غير شرعي، لاتستحق العيش بكرامة إذا لم يكن لديك فائدة. تقول لي مانحن ايضاً نعيش في بلداننا بدون كرامة، فأقول لك اذاً هنيئاً لك إختيارك لمعركتك. فإختر معركتك في سبيل تحقيق العيش الرغيد. فالعيش ليس بسهل لاهنا ولاهناك. ولاتنسى أنك ستكون الخاذل والمخذول في آن معا، عندما خذلت وطنك وعندما خذلك وطنك.

بالمناسبة، وصلني إيميل من ذك الشاب الذي أمرني بكتابة رسالة للسفارة الفلانية، أخبرني في الأيميل أنه مسح إسمي من تلك الرسالة قبل أن يرسلها للسفارة. أراد أن يهاجر وحده. فإعتذر لي. واليوم، هو مازال في اليمن وأنا أصبحت في الجليد.



كتابة أفراح ناصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



*في الجليد أغنية لمغني الراب اللبناني الراس بالشراكة مع مغني الراب الأردني الفرعي، يجسدان فيها صورة حقيقة لواقع الكثير من اللاجئين والمهاجرين العرب في الدول الأوروبية.