06‏/03‏/2025

الاعتقال في اليمن: حين يصبح السجن قدراً والموت خبراً عابراً



أُعيدت رباب المضواحي إلى السجن كما تُعاد الأشياء المسروقة إلى خزائن اللصوص. رئيسة قسم المعلومات في المعهد الديمقراطي الوطني (NDI) لم تُمنح سوى استراحة قصيرة من جدران الزنزانة، مجرد فتحة ضوء خاطفة سمحت لها بتوديع والدتها الراحلة. ساعات معدودة، ثم أُغلقت البوابة الحديدية مجدداً، وكأنها لم تخرج أبداً، وكأن الحزن الذي حملته معها كان تهمة أخرى تستوجب العقاب.

لم تكن وفاة والدة رباب مجرد حدثاً عابراً في سيرة الألم. كانت مرآة تعكس وجوه الآلاف من الأمهات والآباء الذين انتُزع منهم فلذات أكبادهم، خُطفوا من بيوتهم، من أحلامهم، من حيواتهم، وأُلقي بهم في سجون بلا نوافذ. اختُصر كل الفقد، كل العجز، كل الأنين في تلك اللحظة التي أعادوا فيها رباب إلى زنزانتها، وكأن الموت وحده لا يكفي.

لكنّ هناك ألماً لا يُحكى، لا لغة تقدر على حمله. ذلك الألم الذي ينهش أرواح الأمهات والآباء حين يموت أبناؤهم المعتقلون خلف القضبان، وحيدين، بلا وداع كما ينبغي، بلا أيدٍ تمسح أجبنتهم للمرة الأخيرة. في السجون، لا أحد يموت وحده، بل تموت معه كل ملامحه التي عرفها أحباؤه.

كانت صدمة، لكنها لم تكن مفاجأة. الموت في السجون الحوثية ليس حدثاً، بل تقويم تتكرر صفحاته بشكل دوري. هذه المرة، كان أحمد باعلوي عامل الإغاثة في برنامج الأغذية العالمي، الشاب الذي عمل لخدمة الجوعى. اعتقلته جماعة الحوثي تعسفياً في كانون الثاني/ يناير 2025، واحتُجز في سجن في صعدة؛ معقل الحوثيين شمال اليمن، حتى أُعلن عن وفاته الشهر الماضي. لكن أحمد لم يكن الأول، فقبله آخرون، أبرزهم هشام الحكيمي مدير قسم السلامة والأمن في منظّمة “إنقاذ الطفل”، الذي سُحب إلى المصير نفسه. مات هشام في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أثناء الاعتقال. هل كان التعذيب؟ هل كان الإهمال الطبي؟ أم كان كلاهما معاً، في مزيج قاتل تتقنه السجون الحوثية؟ لا فرق. في النهاية، النتيجة واحدة: أسماء تُمحى، أجساد تُرمى، وأهل يتلقّون العزاء بدلاً من العودة.

في حزيران/ يونيو 2024، شنّت جماعة الحوثي حملة اعتقالات واسعة، كأنها تمارس هوايتها المفضلة: اقتناص الأصوات الحرة، حصار الأمل، كتم الأنفاس. كان من بين المعتقلين رباب المضواحي، لم يكن هناك سبب سوى أنها تعمل في منظّمات المجتمع المدني.

مرّت الأيام، الشهور، ووالدة رباب تنتظر. لكن الانتظار في اليمن ليس مجرد وقت يمضي، بل هو تعذيب بطيء. لم ترَ ابنتها قبل أن تموت، لم تلمس يدها، لم تسمع صوتها. ماتت وهي تحمل في قلبها صورة عالقة، ابنة خُطفت إلى المجهول ولم تعد. والمأساة؟ هذه ليست الحكاية الأولى.

كم من أب مات قهراً؟ كم من أم وأب رحلوا وابنهم أو بنتهم لا يزالون في السجون تعسفياً؟ كلما تكرر الفقد، كلما أصبح الألم أكثر ألفة، كأن هذا الوطن لم يعد يعرف سوى الفجيعة. لكن النساء في اليمن لا يعرفن الاستسلام. أمهات وزوجات، ناشطات ومناضلات، لم يتعبن، لم يصمتن. يخرجن إلى الشوارع، يقفن بوجوه متعبة، بأصوات مبحوحة، يطالبن، يصرخن، يرفعن صور أحبّائهن، وكأنهن يرفعن أرواحهن نفسها.

من هذا الألم، من هذا الجرح الذي لا يلتئم، وُلدت رابطة أمهات المختطفين في عام 2015. لم تكن مجرد منظّمة حقوقية، بل صرخة جماعية، شهادة حيّة على أن المأساة لن تُنسى، وأن الأصوات، مهما حاولوا خنقها، ستظل تتردد، حتى تنهار السجون.

الرابطة لا تكتفي بتوثيق الخطف والإخفاء القسري، لا تكتفي بعدّ الأسماء، بتسجيل الوقائع. لا… الرابطة تضيء مصابيحها في أكثر الأماكن وحشة، ترفض أن يكون النسيان مصير من غيّبتهم السجون. إنها لا تصرخ فقط، بل تبني شبكات مناصرة مع المجموعات الحقوقية، تحشد الجهود في أروقة مكاتب الموظّفين الدبلوماسيين، تطرق أبواب قادة القبائل وشيوخها، تقتحم الصمت في لقاءات السلطات وأطراف النزاع. في الداخل، في الخارج، في كل مكان يمكن أن يصل إليه الصوت، هناك من يطالب، من يصرخ: أين هم؟ لماذا لا يزالون خلف الجدران؟ من منحهم الحق في سرقة حيواتهم؟ 

لا كلل، لا ملل، لا توقُّف. لأن العدالة ليست شعاراً، بل هي مطلب محفور في صدور الأمهات، في عيون الآباء، في قبضة كل من رفض أن يكون الظلم قدراً. تريد الرابطة محاكمة الجلادين، معاقبة الخاطفين، كشف المجرمين وتعويض الضحايا. لأن الألم لا يُعالَج بالصمت، بل بالمحاسبة، لأن الوجع لا ينتهي إلا حين يُفتح باب السجن الأخير، حين يعود آخر مخفي، حين يُقال أخيراً لمن تسببوا بهذا الخراب كله: لن تُفلتوا من العقاب.

833 حالة خطف واحتجاز خلال عام واحد. 833 حياة اقتُلعت وأُلقيت في سراديب السجون. كان تقرير رابطة أمهات المخطوفين لعام 2024 أقرب إلى مرثية طويلة، سردية من الألم والإخفاء والتعذيب، قائمة بأسماء غاب أصحابها خلف الجدران العالية.

754 حالة وحدها تتحمّلها جماعة الحوثي، 308 منها اعتقالات جماعية. 51 حالة بيد قوات الحزام الأمني، التي تدرّبها دولة الإمارات وتسلّحها، 16 حالة بيد الحكومة اليمنية “المعترف بها دولياً”، 12 حالة بيد القوات المشتركة. لا فرق في النهاية، الجميع متورّط، الجميع يملك سجناً، الجميع يُجيد فن الاختفاء القسري.

103 أشخاص تبخروا. لا رسائل، لا مكالمات، لا أثر. وحدها العائلات تعرف ماذا يعني أن تكون إنساناً بلا وجود، مجرد ذكرى تتحرّك في أذهان الأمهات اللواتي يترقّبن عودة مستحيلة. 84 حالة على يد الحوثيين، والبقية موزعة بين أيدٍ اعتادت على الإخفاء. التعذيب؟ إنه ليس تفصيلاً عابراً، بل ممارسة يومية، لغة التخاطب الوحيدة في السجون. 58 حالة وثّقتها الرابطة، 38 منها بيد الحوثيين، 9 بيد الحزام الأمني، 6 بيد الحكومة، 5 بيد القوات المشتركة. لكن هذه الأرقام ليست مجرد أعداد، إنها أجساد مكدّسة، صرخات انطفأت، جلود تمزّقت تحت سياط لا ترحم. ستة أشخاص لم يخرجوا أبداً. لا لأنهم محكومون، بل لأنهم ببساطة ماتوا. ماتوا تحت التعذيب، ماتوا تحت وطأة المرض والإهمال.

31 أيار/ مايو 2024، بدأت المأساة من جديد. خلال أسبوعين، اقتحم الحوثيون البيوت والمكاتب، كمن يبحث عن شيء فقده، لكنهم لم يكونوا يبحثون، كانوا فقط يأخذون. لا حاجة إلى التبرير، لا حاجة إلى سند قانوني، لا حاجة إلى أي شيء سوى القوّة. 13 موظّفاً في الأمم المتحدة، 50 آخرون من منظّمات المجتمع المدني، كلهم خُطفوا وسط الصمت، وسط العجز.

الزنازين امتلأت. ثلاثة فقط خرجوا، مجرد فتات رموه ليبدو الأمر أقل قسوة. موظّف من الأمم المتحدة، اثنان من المنظّمات غير الحكومية، لكن ماذا عن البقية؟ لا أحد يعرف عنهم شيئاً. ثم جاء 23 كانون الثاني/ يناير 2025. جولة أخرى، موجة أخرى من القمع الأعمى. ثمانية موظّفين أمميين آخرين اختفوا، كأن الأرض ابتلعتهم. الجميع محتجزون من دون تهم، من دون محاكمة، من دون محامين، من دون حتى رسالة واحدة تطمئن أهلهم.

“التحدّيات التي تعصف باليمن اليوم هائلة… ولعلّ من أبرزها، التقلّص المستمر للفضاء المدني، بخاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة أنصار الله”، قالها المبعوث الأممي هانس غروندبرغ، لكن الكلمات وحدها لا تكفي لوصف الخراب.

يقول: “إن الاعتقالات التعسّفية التي استهدفت موظّفي الأمم المتحدة، والمجتمع المدني، والسلك الدبلوماسي، والقطاع الخاص، إلى جانب الفاجعة المتمثلة في وفاة زميلنا في برنامج الأغذية العالمي أثناء احتجازه، تكشف عن تنامي المخاطر وتقلّص المساحة المتاحة لمن يسعون الى دعم اليمنيين”، كأنه يتحدّث عن ألا أحد خارج دائرة القمع، الجميع هدف، الجميع قابل للاختفاء في غمضة عين. لا تُطرح الأسئلة، لا تُقدَّم التبريرات، فقط يُقتادون.

للأسف، مع الوقت الأسماء تُنسى… إلا الأمهات اللواتي لا ينسين أبداً.


* هذا المقال كتابة أفراح ناصر، نُشر أولاً على موقع درج

27‏/01‏/2025

القوة العسكرية الغربية لن توقف هجمات الحوثيين



كان لهجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول والحرب الإسرائيلية اللاحقة على قطاع غزة وتدميره آثار بعيدة المدى على الشرق الأوسط، بما في ذلك اليمن. في إطار التضامن مع الفلسطينيين، شنت جماعة الحوثي المسلحة في اليمن هجومًا على تل أبيب في 19 يونيو/حزيران، مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة عشرة آخرين. وجاء هذا الهجوم في أعقاب سلسلة من الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار على السفن التجارية الأمريكية والدولية بدءًا من أكتوبر/تشرين الأول 2023. التي تمر قبالة ساحل اليمن على البحر الأحمر. وتزعم جماعة الحوثي أن هذه السفن مرتبطة بإسرائيل أو تدعمها.

غزة والحوثيون


لم يكن انخراط الحوثيين في حرب إسرائيل على غزة مفاجئًا لليمنيين، ولكنه فاجأ العديد من الناس في جميع أنحاء العالم. منذ تأسيسها في عام 1994، دعت حركة الحوثيين باستمرار إلى الدفاع عن فلسطين وتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي. يعكس شعار الحركة “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، موقفهم الراسخ ضد إسرائيل.

بعد الاستيلاء على العاصمة اليمنية صنعاء في عام 2014 من خلال انقلاب عسكري بالتحالف مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، تعتبر الحرب الدائرة في غزة أول صراع كبير في فلسطين يشهده الحوثيون منذ صعودهم إلى السلطة. منذ عام 2014، تعززت قدرات جماعة الحوثي العسكرية بدعم من حليفهم القديم، إيران، التي تُعَدّ أيضًا داعمًا رئيسيًا للقضية الفلسطينية. وقد أتاح هذا الدعم للحوثيين تحقيق طموحاتهم القديمة المتعلقة بفلسطين وتعزيز تطلعاتهم السياسية ليصبحوا قوة إقليمية ودولية مؤثرة.

الاستقرار الإقليمي


لسنوات عديدة، حذر الخبراء من أن عدم الاستقرار في اليمن قد يهدد الأمن الدولي والمصالح الاقتصادية بسبب موقعه الاستراتيجي بالقرب من مضيق باب المندب. وقد تحققت هذه التحذيرات، حيث أن تصرفات الحوثيين مكلفة للمجتمع الدولي. لقد أدت هجمات جماعة الحوثي على الشحن في البحر الأحمر إلى تعطيل التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا بشكل خطير، مما أدى إلى زيادة تكاليف الشحن بنسبة 284 في المائة. كما أدت الهجمات إلى خفض عبور قناة السويس بأكثر من النصف، مما أجبر على إعادة التوجيه حول رأس الرجاء الصالح ورفع تكاليف العبور بنحو 50 في المائة، مما أثر سلبًا على الشركات في كل من الاتحاد الأوروبي ومصر. وقد سلط هذا التعطيل الضوء على سيطرة الحوثيين على نقطة اختناق بحرية حيوية، مما يشكل فعلاً تحديًا للمعايير البحرية ويعمل كشكل من أشكال العقوبات الاقتصادية.

التحالفات السياسية وديناميكيات القوة


في اليمن، كان للتقدم العسكري الذي أحرزه الحوثيون تأثير كبير على التحالفات السياسية وديناميكيات القوة. وعلى الرغم من افتقارهم إلى الشرعية السياسية الشعبية، فإن ظهورهم على الساحة الدولية أسهم في ترسيخ صورة الجماعة كجهة تحكم اليمن. وقد تعززت هذه الصورة بالضربات الانتقامية التي شنتها إسرائيل في 20 يونيو/حزيران على مدينة الحديدة الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

استغلت جماعة الحوثي هذه الهجمات وقدراتها بشكل عام على التصعيد العسكري لتعزيز مكانتها العسكرية والسياسية. وقد وضعت هذه الهجمات الجماعة في مستوى أعلى كلاعب دولي، مما دفع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى تبني نهج أكثر حذرًا لتجنب التصعيد الإقليمي. بالإضافة إلى تحالفها الطويل الأمد مع إيران، استغلت الجماعة الحرب الحالية في غزة لتعزيز علاقاتها مع العراق وروسيا.

وفيما يتعلق بالعراق، يهدف الحوثيون إلى التحالف مع ‘محور المقاومة’ المدعوم من طهران، مما يساعدهم على توسيع نفوذهم ونطاقهم. ومن خلال تعزيز العلاقات مع الميليشيات والشخصيات السياسية العراقية، يكتسب الحوثيون عمقًا استراتيجيًا ضد المملكة العربية السعودية ويعززون حضورهم الإقليمي. أما بالنسبة لروسيا، فإن إلغاء تسليم الأسلحة للحوثيين في اليمن تحت ضغط من السعودية والولايات المتحدة يسلط الضوء على نية الحوثيين في التعامل مع القوى الدولية خارج المنطقة. وتعكس هذه التطورات طموحات الحوثيين الإقليمية الأوسع خارج اليمن، وإعادة ترتيب توازن القوى في الشرق الأوسط.

الأمن والديناميكيات الإقليمية


أصبحت طموحات الحوثيين الأوسع نطاقًا خارج اليمن واضحة أثناء صراع غزة ومن المرجح أن تستمر حتى بعد انتهائه. لقد تغيرت ديناميكيات الأمن في اليمن بشكل كبير مع بروز القدرات العسكرية للحوثيين كتهديد للأمن الدولي. من خلال إظهار سيطرتهم على طرق الشحن قبالة سواحل اليمن في البحر الأحمر، بما في ذلك اختطاف ومهاجمة السفن الدولية، أسس الحوثيون مكانة مهيمن في المشهد الأمني ​​في اليمن، متجاوزين نفوذ الفصائل العسكرية اليمنية الأخرى. يعتقد الخبراء أن الحوثيين سيواصلون استخدام قوتهم العسكرية لتحقيق أهداف استراتيجية، مثل السعي للحصول على اعتراف دولي بحكومتهم. تؤثر القدرات العسكرية للحوثيين بشكل خاص على علاقاتهم بالقوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين لم يعد بإمكانها الاستهانة بجماعة الحوثي.

إن الاستجابة العسكرية الغربية قصيرة النظر


غياب الحل الدبلوماسي من جانب المجتمع الدولي لصراع في غزة له صدى في اليمن. ويبدو أن المجتمع الدولي لا يعترف بالعلاقة بين هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وتل أبيب، وحرب إسرائيل على غزة وتضامن جماعة الحوثي مع الفلسطينيين. وبدلاً من السعي إلى حل دبلوماسي للنزاع في غزة، بدأت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في اتخاذ إجراءات عسكرية ضد أهداف الحوثيين. فمنذ ديسمبر/كانون الأول، قادت الولايات المتحدة عملية “حارس الرخاء”، حيث شنت غارات جوية على اليمن، وفي فبراير/شباط، أطلق الاتحاد الأوروبي عملية “أسبيدس البحرية” لحماية التجارة في البحر الأحمر. قد يؤدي هذا التركيز على الحلول العسكرية بدلاً من الحلول الدبلوماسية إلى زعزعة استقرار المنطقة بشكل أكبر، مما يعقد جهود السلام في اليمن وغزة.

الطريق إلى الأمام


لقد سمح الصراع في غزة للحوثيين بتعزيز قدراتهم العسكرية وطموحاتهم السياسية، مما جعلهم لاعبًا مهمًا على الساحة الإقليمية. وفي غياب الجهود الدبلوماسية والرامية إلى السلام في اليمن وغزة، لن تكون التدخلات العسكرية ضد الحوثيين فعالة.

يتعين على صناع السياسات والجهات الفاعلة الإقليمية تبني استراتيجية متعددة الأوجه لمعالجة دور الحوثيين في الصراع في غزة. ينبغي أن يبدأ ذلك بإعطاء الأولوية لمعالجة الأسباب الجذرية، من خلال بذل جهود دبلوماسية كبيرة لحل الوضع في غزة. ونظرًا لأن استقرار اليمن يشكل أهمية بالغة للمصالح الاقتصادية والأمنية العالمية، يتعين على المجتمع الدولي أن ينخرط في مفاوضات مباشرة مع الحوثيين لمعالجة مخاوفهم السياسية والأمنية، ودمجهم في الدبلوماسية العالمية.

وعلاوة على ذلك، ينبغي دعم عملية السلام بين الحوثيين والحكومة اليمنية والفصائل اليمنية الأخرى دون تدخل من القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبدلاً من الاعتماد على المساعدات الإنسانية غير المستدامة، ينبغي أن تركز الجهود على وضع خطط اقتصادية طويلة الأجل لليمن تهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية وخلق فرص العمل، مما يقلل من الاعتماد على الحلول العسكرية. ومع استقرار غبار الصراع في غزة، فإن الطريق إلى الأمام بالنسبة لليمن والمنطقة الأوسع يعتمد على تبني الدبلوماسية بدلاً من القوة العسكرية.


* هذا المقال كتابة أفراح ناصر، نُشر أول مرة على موقع المركز الدولي لمبادرات الحوار. 

اليمن على شفا الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة




شهد عام 2024 في اليمن تحوّلًا محوريًا في ديناميكيات القوى الإقليمية، حيث رسّخت جماعة الحوثي المسلحة دورها كقوة مُزعزعة ولاعب بارز على الساحة العالمية. وقد تأثّر هذا التطور بشكل كبير بأحداث بدأت أواخر عام 2023. ومن خلال استغلال سيطرتهم على شمال اليمن، قام الحوثيون بتوظيف الممرات البحرية الاستراتيجية في البحر الأحمر كسلاح، مستهدفين السفن المارة عبر مضيق باب المندب منذ نوفمبر 2023. وكإعلان عن التضامن مع فلسطين في حرب إسرائيل على غزة، هدفت تحركات الحوثيين إلى الضغط على إسرائيل وحلفائها لإنهاء الحرب، مُعلنين أن جميع السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية أهداف مشروعة.

جاء الرد من واشنطن سريعًا، مما مهد الطريق لتوترات مستمرة في عام 2024. ففي ديسمبر 2023، قاد الرئيس جو بايدن تحالفًا أُطلق عليه اسم “عملية حارس الازدهار”، والذي ضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا والبحرين وكندا وهولندا، حيث شنّ التحالف هجمات عسكرية على البنية التحتية العسكرية للحوثيين داخل اليمن بهدف تقويض قدرات الجماعة. ومع ذلك، بدلًا من التراجع، صعّد الحوثيون من هجماتهم، ونفّذوا ضربات بطائرات مسيّرة على المدن الإسرائيلية عدة مرات، مما أظهر أن قدراتهم التشغيلية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة.

جاءت الضربات الانتقامية الإسرائيلية على ميناء الحديدة اليمني في يوليو وسبتمبر لتعمّق دورة التصعيد. كما نفّذت القوات الأمريكية والبريطانية غارات جوية استهدفت مخازن أسلحة حوثية، مما زاد من حدة التوترات المتصاعدة.

وفي الوقت نفسه، برزت انتهازية جيوسياسية في أماكن أخرى. ففي يونيو، أثارت محاولة الإمارات استئجار ميناء عدن الدولي لهيئة موانئ أبوظبي غضبًا واسعًا بين الشخصيات السياسية والناشطين اليمنيين.

تراجع نفوذ الحوثيين وإيران


بحلول أواخر عام 2024، كان “محور المقاومة” في حالة من الفوضى. فقد وجّهت اغتيالات قادة من حماس وحزب الله، إلى جانب انهيار نظام الأسد، ضربة كبيرة لنفوذ إيران الإقليمي. وبالنسبة للحوثيين في اليمن، يُبرز تراجع قدرة إيران على دعم حلفائها هشاشة موقف الجماعة ويفرض تحديات عميقة عليها.

إن تراجع قدرة إيران على فرض نفوذها وتقديم الموارد في اليمن قد يترك الحوثيين في موقف هش، مما قد يخلق فراغات في السلطة قد تُزعزع الديناميكيات الهشة للصراع القائم بالفعل. وبينما قد يوفر هذا التحول فرصة للتهدئة، خاصة إذا أُجبرت إيران على تقليص دعمها، فإنه قد يدفع الحوثيين أيضًا إلى تصعيد مواقفهم العسكرية أو البحث عن تحالفات بديلة، مما سيزيد من تعقيد جهود إحلال السلام.

على ضوء الأحداث الأخيرة، ركّز قادة الحوثيين خطابهم على الأعداء الخارجيين، مما يعكس استراتيجية إيران في التهرب من المسؤولية واتباع سياسة إلقاء اللوم على الآخرين، وهو ما يكشف عن هشاشة موقفهم. وبالمثل، وكما تجاهل نظام الأسد مطالب شعبه، يواصل الحوثيون تجاهل مظالم اليمنيين مع التركيز على الجهات الخارجية. هذه المقاربة تُعرّضهم لخطر زيادة عزلة الشعب اليمني وتعزيز الانطباع بأن الجماعة تُعطي الأولوية للأجندات الخارجية على حساب الاستقرار الداخلي.


الاحتياجات الاقتصادية والإنسانية لليمن في عام 2025


من المتوقع أن تتفاقم الأزمات الاقتصادية والإنسانية في اليمن بحلول عام 2025، بسبب الصراع المستمر، والتشظي الاقتصادي، وانعدام الاستقرار الإقليمي. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 19.5 مليون شخص سيحتاجون إلى المساعدات الإنسانية في عام 2025، بزيادة تقارب 7% مقارنة بعام 2024. حاليًا، يواجه أكثر من 17 مليون يمني انعدام الأمن الغذائي، من بينهم 3.5 مليون يعانون من سوء التغذية الحاد. بالإضافة إلى ذلك، يفتقر ما يقرب من 18 مليون شخص إلى مياه الشرب النظيفة وخدمات الصرف الصحي، بينما تستمر الأمراض التي يمكن الوقاية منها مثل الكوليرا والدفتيريا وحمى الضنك في التفشي بين السكان.

لا يزال الاقتصاد في حالة انهيار مستمر، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة إضافية بعد انكماش بنسبة 1% في عام 2024. وقد أدت عرقلة صادرات النفط وتدهور قيمة الريال اليمني إلى شلّ المالية العامة للدولة، مما ترك الخدمات الأساسية دون تمويل وزاد من حدة الأزمة الإنسانية. كما أدى ارتفاع معدلات التضخم واضطراب سلاسل التوريد، والذي تفاقم بسبب هجمات الحوثيين على حركة الشحن في البحر الأحمر، إلى دفع البلاد نحو حافة الانهيار.

آفاق السلام الهشة


على الرغم من الهدنة الموقعة عام 2022 بين الحوثيين والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، والإعلان عن خارطة طريق قبل عام، لم يُحرَز أي تقدم جوهري نحو تسوية سلمية دائمة. في الواقع، لا تزال آفاق السلام في اليمن هشة للغاية.

خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، شهدت رؤية المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، هانس غروندبرغ، تحولًا حادًا — من تفاؤل حذر إلى قلق عاجل. قبل ثلاثة أسابيع، طرح غروندبرغ مسارًا للسلام في عام 2025، يعتمد على وحدة الموقف الدولي وخارطة طريق واضحة لوقف إطلاق النار.

لكن رسالته التي أدلى بها أمس كانت أكثر قتامة: تصاعد العنف، والانهيار الاقتصادي، والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان — مثل احتجاز الحوثيين للأفراد وانعدام الأمن في البحر الأحمر — كلها تزيد من زعزعة استقرار اليمن.

إن نافذة العمل الدبلوماسي تضيق بسرعة. وقد حذر غروندبرغ من أن هذه التطورات قد قلصت مساحة الوساطة وتهدد بتقويض أي تقدم محقق، داعيًا إلى تحرك فوري لمنع اليمن من الانزلاق أكثر نحو الفوضى.

يتفاقم هذا الشعور بالإلحاح بسبب التحولات الإقليمية الأوسع نطاقًا، بما في ذلك تراجع نفوذ إيران عقب سقوط نظام الأسد. في السابق، كان الحوثيون يعرّفون السلام على أنه سيناريو يضمن لهم السيطرة المطلقة على السلطة، مع استبعاد الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا والفصائل السياسية الأخرى.

ومع ذلك، ومع إضعاف داعمهم الرئيسي، قد يُجبر الحوثيون على إعادة تقييم موقفهم. فقد يدفعهم تراجع الدعم الخارجي إلى خفض سقف مطالبهم، والتعامل بجدية أكبر مع المفاوضات، والمشاركة في محادثات سلام شاملة، مما قد يخلق فرصة لتحقيق تقدم — إذا تحرك المجتمع الدولي بحزم وفعالية.

ومع ذلك، فإن التصعيد في المواجهة بين جماعة الحوثي المسلحة وإسرائيل قد يشعل استئناف حرب اليمن من جديد. فقد كان المعسكر المناهض للحوثيين في اليمن يطالب بالحرب مع الحوثيين منذ أن بدأت إسرائيل مهاجمة اليمن في يوليو 2024. على سبيل المثال، صرح حميد الأحمر، أحد القيادات البارزة في حزب الإصلاح، بأن التطورات الإقليمية والدولية الأخيرة يجب استغلالها لـ “إنهاء الانقلاب الحوثي المشؤوم واستعادة الدولة”. وأكد أن الحوثيين قد أظهروا مرارًا وتكرارًا عدم التزامهم بالسلام، بعد أن أضاعوا الجهود الجادة التي بذلتها المملكة العربية السعودية للتوصل إلى تسوية سلمية. كما أشار الأحمر إلى تصاعد الغضب الشعبي في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، واصفًا إياه بأنه وصل إلى مستويات غير مسبوقة، محذرًا من أن اعتماد الحوثيين على التصعيد العسكري والقمع سيعمق هذا الاضطراب أكثر.

وتعكس رسالته شعورًا أوسع بين الفصائل المناهضة للحوثيين بأن الوقت قد حان لمواجهة الحوثيين عسكريًا، وهو الموقف الذي قد يؤدي إلى تصعيد الصراع في اليمن بشكل أكبر في عام 2025. ومع ذلك، لا يبدو أن جماعة الحوثي تخشى أو تكترث لأي من هذا، حتى وإن تعرضت لضربات قوية من الولايات المتحدة وإسرائيل وعواقب ذلك. فهم يبدون واثقين من أن المعسكر الداخلي المناهض للحوثيين لا يزال منقسمًا وضعيفًا، ولم يعد يتلقى نفس مستوى الدعم العسكري الذي كان يحصل عليه من التحالف الذي تقوده السعودية لاستعادة شرعية الحكومة اليمنية. وإذا حصل المعسكر المناهض للحوثيين على دعم عسكري كبير من داعميه السابقين، السعودية والإمارات العربية المتحدة، أو من حلفاء خارجيين جدد، فإن استئناف حرب اليمن سيصبح شبه لا مفر منه. في النهاية، فإن أحد أخطر التهديدات لفرص السلام في اليمن في 2025 هو الاحتمال الوشيك للعودة الكاملة إلى الحرب الأهلية، وهو سيناريو لن يؤدي إلى تدمير اليمن بشكل أكبر فقط، بل سيمتد تأثيره أيضًا على الأمن الإقليمي و طرق الشحن العالمية.

دور المجتمع الدولي في تسهيل السلام في 2025


لتسهيل السلام في اليمن بحلول العام المقبل، يجب على المجتمع الدولي الاستفادة من تراجع نفوذ إيران لتشجيع الحوثيين على إعادة النظر في مواقفهم المتشددة والانخراط في حوار شامل. ويتطلب ذلك الضغط على جميع الأطراف للمشاركة بشكل بناء، وضمان المشاركة الفعالة للفصائل اليمنية المختلفة، بما في ذلك النساء والشباب ومنظمات المجتمع المدني في محادثات السلام.
من المهم معالجة هشاشة الاقتصاد في اليمن، بما في ذلك تقديم المساعدات العاجلة لاستقرار الاقتصاد، وتخفيف انعدام الأمن الغذائي، وإعادة بناء البنية التحتية. في الوقت نفسه، يجب أن تركز الجهود على إعادة بناء مؤسسات الدولة لاستعادة الخدمات وتعزيز سيادة القانون. يمكن للمجتمع الدولي خلق الظروف اللازمة للسلام والاستقرار المستدام في اليمن من خلال إعطاء الأولوية للاحتياجات الإنسانية، وتمكين المبادرات المحلية للسلام، وتعزيز التعاون الإقليمي. ورغم أن المشاركة الدولية أمر بالغ الأهمية، يجب أن تتم دون المساس بسيادة اليمن، أو تعزيز الانطباع بأن السلام يُفرض من قبل القوى الأجنبية بدلاً من أن يتحقق بشكل طبيعي من قبل اليمنيين أنفسهم.

في الختام


الوصول إلى اتفاق سلام دائم سيفتح طريقًا لليمن نحو التعافي. بدون تدخل فوري، يواجه اليمن تزايد الفقر والنزوح وعدم الاستقرار، مما يهدد مستقبله. مسار اليمن في عام 2024 لم يكن مقتصرًا على الصراع فقط، بل كان مثالًا على كيفية أن الفراغ في السلطة وتشظي الحكم تتيح للقوى الخارجية إعادة صياغة قواعد اللعبة. لقد أعادت أفعال الحوثيين تعريفهم كقوة إقليمية قادرة على تغيير مشهد الشحن العالمي ولكن بتكلفة كبيرة على استقرار اليمن. يعتمد مستقبل البلاد الآن على ما إذا كانت هذه المصالح المتنافسة يمكن أن تجد توازنًا، أم سيظل اليمن ساحة صراع بالوكالة في منافسة جيوسياسية أوسع.



* هذا المقال كتابة أفراح ناصر، نُشر أولاً على موقع المركز الدولي لمبادرات الحوار. 

11‏/12‏/2024

تحديات ستواجه ترامب في اليمن.. وهذا ما ينبغي فعله إزاء الحوثيين




سلط "المركز العربي واشنطن دي سي" الضوء على التحديات الجيوسياسية والعسكرية التي ستواجه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اليمن، في ظل تصعيد جماعة الحوثي في البحر الأحمر واختلاف وتباين أجندات السعودية والإمارات في البلاد التي تشهد صراعا مذ 10 سنوات.

وقال المركز في تحليل للكاتبة والباحثة اليمنية غير المقيمة، أفراح ناصر، وترجم أبرز مضمونه إلى العربية "الموقع بوست" إن "التصعيد العسكري بين الولايات المتحدة وجماعة الحوثيين المدعومة من إيران في اليمن له آثار كبيرة على مستقبل اليمن. ومع استمرار الحوثيين في تعزيز سيطرتهم على العاصمة صنعاء، فإن مشاركة واشنطن سيلعب دورًا حاسمًا في المسار السياسي والعسكري للبلاد".

وأضاف "بالنسبة لإدارة ترامب القادمة، فإن التحديات التي يفرضها اليمن تلوح في الأفق، وتقدم مجموعة معقدة من المخاطر الجيوسياسية ذات الآثار المباشرة على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. لكن المسار إلى الأمام يجب أن يكون واضحًا: لا ينبغي للبيت الأبيض في عهد ترامب أن يتمسك بنهج بايدن الفاشل تجاه اليمن.

وترى الباحثة ناصر أن مفتاح النجاح هو التعاون. ويتعين على الولايات المتحدة أن تعمل جنباً إلى جنب مع الشركاء الدوليين والإقليميين لتطوير إطار موحد للسلام ــ إطار شامل ومستجيب لاحتياجات جميع الفصائل اليمنية.

وقالت "هذا يعني ضمان ألا تكون الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً مجرد واجهة، بل سلطة فعّالة وقادرة على تولي القيادة".

ودعت الولايات المتحدة أيضاً إلى أن تضغط على الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، وخاصة السعودية والإمارات، لتوحيد جهودها في اليمن. مشيرة إلى أن التنافس بينهما لفترة طويلة كان عقبة رئيسية أمام أي وحدة ذات مغزى في اليمن.

وأردفت ناصر "فقط من خلال وضع خلافاتهم جانباً وتنسيق جهودهم يمكنهم المساعدة في استقرار البلاد. وبفضل النفوذ الدبلوماسي الأميركي، يمكن لهذه الجهات الفاعلة أن تشكل إطاراً تعاونياً يتصدى للتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه اليمن".

التحدي الحوثي


وقالت "مع تصعيد الحوثيين أصبح البحر الأحمر - شريان الحياة الحيوي للتجارة الدولية - ساحة معركة خطيرة، وهدد بتوسيع حرب إسرائيل على غزة. ولم تكن تحركات الحوثيين مجرد بيان سياسي موجه إلى الولايات المتحدة: بل إنها تحدت مصالحها الاستراتيجية.

وأردفت "مع تعرض استقرار الطرق البحرية للخطر، تحول الوضع في اليمن فجأة إلى أزمة عالمية بعيدة المدى. وبات مستقبل اليمن ومستقبل التجارة الدولية مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بأفعال الحوثيين والاستجابة الدولية".

وذكرت أن الولايات المتحدة نفذت العديد من الهجمات الأخرى منذ ذلك الحين. ولكن على الرغم من الجهود الهائلة، كانت النتائج بعيدة كل البعد عن الحسم. فقد استمر الحوثيون العنيدون في كونهم مصدر قلق للولايات المتحدة وحلفائها.

وأوضحت أن السياسات الأميركية في الواقع فشلت في كبح جماح قوة الحوثيين وأنشطتهم في البحر الأحمر وفي الداخل. وبدلاً من ذلك، ساهمت الجهود الأميركية في استمرار الصراع في اليمن وتفاقم معاناة المدنيين في البلاد.

وترى ناصر أن إدارة ترامب الثانية تحتاج إلى استراتيجية لمعالجة القضايا الأعمق المطروحة وتوفير أساس مستقر للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط. ولكن من المرجح أن تواجه الإدارة الجديدة تحديا في الموازنة بين الحاجة إلى تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن ومعالجة الأزمة الإنسانية وعدم الاستقرار السياسي في اليمن.

وأشارت إلى أن هذا التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في اليمن منذ عام 2011، قد تعقد بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. ولكن إعطاء الأولوية للحلول العسكرية يخاطر بتفاقم الأزمة الإنسانية وتعميق عدم الاستقرار الإقليمي. وهذا يتطلب استراتيجية دبلوماسية لمعالجة قوة الحوثيين مع تجنب المزيد من زعزعة الاستقرار.

انتقادات للسياسة الأميركية


وطبقا للباحثة ناصر فإن عسكرة الولايات المتحدة للبحر الأحمر لم تفشل في الحد من قدرات الحوثيين فحسب، بل شجعتهم عن غير قصد، الأمر الذي يكشف تقدما مذهلا في القدرات العسكرية للحوثيين.

"مع تزايد التزام الجيش الأمريكي ضد الحوثيين في اليمن، أصبح من الواضح أن التركيز الأساسي كان على حماية المصالح الأمنية لإسرائيل. ولكن مع مرور الأشهر، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن هذا النهج العسكري جاء بتكلفة. تم إهمال القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور في اليمن لصالح الأهداف العسكرية قصيرة الأجل" وفق التحليل.

وزادت "وبدلاً من تخفيف المعاناة أو جلب الفصائل المتحاربة إلى طاولة المفاوضات، أدى الوجود العسكري الأمريكي إلى تغذية حلقة من العنف. يبدو أن الضربات الجوية والتدخلات العسكرية، على الرغم من أنها تهدف إلى حماية المصالح الاستراتيجية، تتجاهل المبادئ الإنسانية التي كانت الولايات المتحدة تدافع عنها سابقًا. في النهاية، لم تقدم الاستراتيجية أي مسار واضح للسلام".

التحديات ستواجه استراتيجية واشنطن باليمن


تقول ناصر "كان الحوثيون قوة متنامية في اليمن لسنوات، ولكن في عام 2024، وصلت قدراتهم العسكرية إلى آفاق جديدة. ولم يعد الحوثيون معزولين، بل شكلوا تحالفات جديدة قوية. وتبرز اتصالاتهم المتعمقة مع روسيا بشكل خاص: فقد بدأت موسكو في تقديم الاستخبارات العسكرية وبيانات الأقمار الصناعية للحوثيين، كما شملت المناقشات أيضًا عمليات نقل الأسلحة الروسية المحتملة، بما في ذلك الصواريخ المضادة للسفن.

وزادت "لكن الحوثيين لم يتوقفوا عند موسكو. فقد امتدت تحالفاتهم إلى الجماعات المسلحة العراقية مثل المقاومة الإسلامية في العراق وحتى وصلت إلى جماعات مثل الشباب في الصومال. ولم تكن هذه الروابط تتعلق بالأسلحة فحسب: بل كانت تتعلق بالمصالح المشتركة والجهود المنسقة لتحدي القوى الإقليمية".


الاتجاهات السياسية للإدارة القادمة لترامب


تقول "نظرًا للقيود المفروضة على العمل العسكري الأمريكي - بسبب افتقار الجمهور الأمريكي إلى الرغبة في المزيد من الصراعات، والحالة الضعيفة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، وإمكانية قيام حملة عسكرية بتعزيز الحوثيين عن غير قصد - يجب على إدارة ترامب التركيز على الدبلوماسية والتفاوض والحلول السياسية باعتبارها الوسيلة الوحيدة القابلة للتطبيق لحل أزمة البحر الأحمر واستقرار اليمن".

لمعالجة التحديات بشكل فعال، قالت ناصر "يجب على الولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية تتجاوز الإجراءات العسكرية الضيقة ضد البنية التحتية للحوثيين. يكمن العمل الحقيقي في معالجة الأسباب الأوسع التي تغذي العنف. ستكون الخطوة الأولى الحاسمة في غزة، حيث أن وقف إطلاق النار هناك من شأنه أن يقلل من الإجراءات التي تؤجج التوترات".

ودعت واشنطن إلى أن تتبنى استراتيجية تتجاوز الإجراءات العسكرية الضيقة ضد البنية التحتية للحوثيين، وقالت ثم، يجب على الولايات المتحدة أن تتبنى نهجًا جديدًا في اليمن لمعالجة جذور قوة الحوثيين. مشيرة إلى أن إيران وروسيا والشباب والميليشيات العراقية كانوا يلعبون دورًا في تعزيز التمرد الحوثي.

وقالت إن إدارة ترامب لابد وأن تمارس ضغوطاً دبلوماسية واقتصادية على هذه الجهات الخارجية لوقف دعمها العسكري والمالي للحوثيين. ولكن هذا لن يكون كافياً. بل لابد وأن تدرك الولايات المتحدة مدى إلحاح قطع خطوط إمداد الحوثيين بالأسلحة التي تعتمد على التهريب. ولابد وأن تركز على طرق التهريب الرئيسية في البحر الأحمر وخليج عدن، حيث تتسرب الأسلحة من خلال الشقوق. ولابد وأن تكثف عمليات الحظر البحرية والبرية، مما يجعل من الصعب على الحوثيين الاستمرار في تلقي الموارد العسكرية".

دروس مستفادة من الماضي


إن معالجة الانقسامات الداخلية في اليمن أمر بالغ الأهمية. ويتعين على الولايات المتحدة -وفق الباحثة- أن تركز على نهج متكامل يوازن بين التدابير المناهضة للحوثيين والجهود الرامية إلى مساعدة اليمن على إعادة بناء حكمه والمصالحة بين الفصائل المتنافسة.

وبنظر الباحث فإن هذا ضروري لتجنب تفاقم تفتت البلاد. وإلا فإن اليمن تخاطر بأن تصبح ساحة معركة بالوكالة بشكل دائم، محاصرة بين قوى خارجية، بلا أمل في الحل الداخلي. وقالت "يتعين على الولايات المتحدة أن تدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في اليمن، والذي بدوره يمكن أن يضمن الأساس لتعافي اليمن مع تعزيز الأمن الإقليمي".

بالنسبة لإدارة ترامب القادمة، ترى أن الدروس المستفادة من الماضي واضحة. لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعتمد بعد الآن على استراتيجيات مجزأة تعالج أعراض الأزمة اليمنية فقط. ولإحداث تحول حقيقي في مسار الصراع في اليمن، يتعين على الولايات المتحدة أن تعالج القوى الأعمق وراء الصراع.

كما حثت أمريكا على العمل جنباً إلى جنب مع الشركاء الدوليين والإقليميين لتطوير إطار موحد للسلام ــ إطار شامل ومستجيب لاحتياجات جميع الفصائل اليمنية. وهذا يعني ضمان ألا تكون الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً مجرد واجهة، بل سلطة فعّالة وقادرة على تولي القيادة.

وبشأن تباين واختلاف أجندات السعودية والإمارات في اليمن قالت الباحثة ناصر "يتعين على الولايات المتحدة أيضاً أن تضغط على الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، وخاصة السعودية والإمارات، لتوحيد جهودها في اليمن.

وأكدت أن التنافس بين الرياض وأبو ظبي لفترة طويلة كان عقبة رئيسية أمام أي وحدة ذات مغزى في اليمن. وقالت "فقط من خلال وضع خلافاتهم جانباً وتنسيق جهودهم يمكنهم المساعدة في استقرار البلاد. وبفضل النفوذ الدبلوماسي الأميركي، يمكن لهذه الجهات الفاعلة أن تشكل إطاراً تعاونياً يتصدى للتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه اليمن". 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذه الترجمة صادرة عن موقع الموقع بوست للورقة البحثية المنشورة باللغة الإنجليزية على موقع المركز العربي، وهي من كتابة أفراح ناصر. 

12‏/10‏/2024

هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟



* في هذا الركن المعتم من العالم، في منطقتنا العربية، حيث تبدو المدن الزجاجية كالأشباح، ترتفع ناطحات السحاب كالأصابع المتهمّمة نحو السماء، تهرب من أرض محروقة. هنا، الدول تغرق في ثروات لا تنتهي، البترول ينساب كالنهر في عروق الاقتصاد، تمسك بزمام صناديق الاستثمار الكبرى، تبني مدناً حديثة وتتمتع بعلاقات سياسية وتجارية واسعة مع إسرائيل، بينما تُبنى جدران العزلة، ليس لتحمي، بل لتبعد الناظر عن فوضى العالم الآخر. ولكن، وراء هذه الحوائط، هناك أصوات لا تهدأ، أصوات تأتي من أرض محروقة، من دول غارقة في الخراب، أصوات القنابل تضرب الأرض وكأنها تدق ناقوس النهاية.

هنا، في عتمة ذلك الجانب الآخر، حيث الجوع هو القانون، والموت هو الحارس، لا يوجد مكان للهروب. الناس يكافحون للبقاء، يمدّون أيديهم نحو السماء، ليس ليمسكوا بها، بل ليتجنبوا السقوط. في هذه الفوضى، يترك الأغنياء جيرانهم يموتون ببطء، وكأن الموت حدث طبيعي، كما تغيب الشمس عن يوم مرهق. هل هذا قدرهم؟ أن يراقبوا، أن يغلقوا أعينهم، أن يصمّوا آذانهم؟

التفاوت الاقتصادي في الشرق الأوسط


منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واحدة من تلك البقع على الأرض التي تُلهم العقول وتُهلك الأرواح. وفقاً لتقرير مختبر اللامساواة العالمية لعام 2022، تعدّ هذه المنطقة من بين الأكثر تفاوتاً اقتصادياً على الإطلاق. في عالمنا هنا، حيث تتجاور أعظم الثروات مع أعمق الفقر، تقف الدول الغنية مثل قطر والإمارات والسعودية في ترف مبالغ فيه، بينما تتحطم دول أخرى تحت وطأة الحروب والخراب — فلسطين، الصومال، السودان، اليمن. كأن كل دولة تعيش في فقاعة منفصلة، بعيدًا عن أوجاع الأخرى.

التباين هنا ليس مجرد فرق في الأرقام أو الإحصاءات؛ إنه فوضى قائمة، تفاوت صارخ يشبه جرحاً مفتوحاً يفسر كوارث كثيرة تعصف بحياة الملايين. ننظر حولنا، ونرى البلدان تتهاوى واحداً تلو الآخر. فلسطين، لبنان، اليمن، سوريا، السودان، ليبيا، حتى العراق ومصر وتونس، كلها غارقة في الفوضى، في دوامة لا تنتهي من النزاعات المسلحة والاقتصاد الممزق. على الجانب الآخر، تنعم السعودية والإمارات والكويت وقطر وسلطنة عمان بالرخاء، كأنها تعيش على كوكب آخر، حيث المال يتدفق بلا توقف، والمليارديرات ينعمون بحياتهم من دون اكتراث لمن حولهم.

إنه عالم مقسوم نصفين: نصف غارق في البؤس، والنصف الآخر محلّق فوق السحاب. هذه الدول الغنية، التي تتربع على عروشها من ذهب ونفط، لم تقدم شيئاً يذكر لتغيير مصير جيرانها الممزقين. وكأن الفقر والجوع والحرب مجرد خلفية مشوشة لا تليق بأن تُرى أو تُسمع، بينما يواصل الأثرياء بناء أبراجهم الزجاجية، يعيشون في واقع معزول، بعيدًا عن كل ما يحدث خلف الحوائط الشاهقة.

في هذا التباين الصارخ بين عواصم الأثرياء اللامعة، حيث ترتفع الأبراج الزجاجية، وبين المدن التي تأكلها الحروب والانهيارات، يطرح السؤال نفسه: هل هذه الدول الغنية في مأمن حقاً؟ هل يظنون أن هذا التفاوت الأمني والاقتصادي لن يولّد وحشاً؟ الواقع يصفعهم بالحقيقة: في هذا العالم، لا يمكنك أن تكون منعزلاً. ما يحدث في الأطراف يصل إلى المركز، بطريقة أو بأخرى. اللاجئون يعبرون الحدود، التوترات تتصاعد كالعواصف، التطرف ينمو في الظلال، والعنف يصبح لغة وحيدة. الدول العربية الغنية قد تظن أنها تستطيع بناء جدران من ذهب تعزلها عن فوضى العالم من حولها، ولكنها مخطئة. لأن في هذا العالم المتشابك، لا شيء يبقى في مكانه. الأزمات تزحف مثل أشباح ليلية، تطرق الأبواب حتى أكثر القصور تحصيناً، عدم الاستقرار والفقر في الجوار ليسا مجرد أخبار تسمعها من بعيد، بل هما كالنيران تحت الرماد، لا تهدأ حتى تحرق كل ما حولها.

أما الانكماش الاقتصادي في دول الجوار، فهو يضعف كل شيء. الأسواق التجارية، الاستثمارات، حتى فرص النمو. كل شيء يتباطأ، كأن الأزمات تشد الحبل حول عنق المنطقة بكاملها. ووسط هذه الفوضى الإنسانية، تقف المنظمات الإقليمية والدولية عاجزة. لا تستطيع وحدها حمل هذا العبء الثقيل. لأنه في النهاية، الأزمات لا تحترم الحدود، والأمان لا يُشترى بالمال فقط.

الجدران الزجاجية لا تحمي من النار


على الدول الغنيّة أن تدرك أن استثمارها في استقرار جيرانها وازدهارهم ليس عملاً خيرياً أو مجرد واجب أخلاقي. في هذا العالم، حيث تلتفّ خيوط الفوضى والخراب حول كل شيء، يكون الاستثمار في استقرار المحيط ضرورة استراتيجية، شرطاً لبقاء الأمن واستمرار النمو. لا يمكنك أن تظل محاطاً بالجدران الزجاجية، بينما النار تلتهم الأطراف. الدول العربية الغنية، تلك التي تعيش في رخاء كاذب، عليها أن تواجه الحقيقة: لا استقرار من دون استثمار في جيرانها. لا بد أن تكون لها مشاركة جدية في حل النزاعات بطرق دبلوماسية، ودعم مبادرات التنمية المستدامة، وتعزيز التعاون الاقتصادي الذي يفتح آفاقاً جديدة للجميع.

قطر، على سبيل المثال، لم تقف موقف المتفرج في الحرب الأخيرة على غزة. لعبت دور الوسيط بين الولايات المتحدة والفصائل التي ترفض واشنطن التعامل معها. ولكن حتى تلك الوساطة تعرضت للنقد. في عالمٍ تمزقه المصالح، لكل دور ثمن. أعضاء الكونغرس الأميركي، في سعادتهم الضيقة، قدموا مشروع قانون لمراجعة وضع قطركحليف رئيسي خارج الناتو، مشيرين إلى علاقاتها مع حماس وغيرها من الفصائل. وكأننا في لعبة شطرنج، كل خطوة محسوبة، وكل انتقاد يحمل في طياته أجندة خفية. في مواجهة هذه الانتقادات، أبدت قطر بعض التردد بشأن دورها المستمر. في نيسان/ أبريل، أعلن رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن قطر تجري “تقييماً شاملاً” لدورها في التوسط في محادثات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل.

عُمان، على الجانب الآخر، حافظت على هدوئها المعتاد، تعمل في الظل. الوساطة التي تقوم بها، على رغم سريتها، لم تحدث فرقاً كبيراً حتى الآن. الحقائق على الأرض تُظهر أن الكوارث الإقليمية لا تحتاج إلى وساطة صامتة، بل إلى أفعال حقيقية وقوية. أما السعودية، فتكتفي بتنظيم القمم وإصدار البيانات الرنانة عن فلسطين. تصريحاتهم الأخيرة عن التزامهم بإقامة دولة فلسطينية وأنهم لن يطبعوا العلاقات مع إسرائيل حتى يتم إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لم تغير الكثير من الواقع. في الوقت ذاته، الإمارات تتطلع إلى المستقبل، محاولة استغلال علاقتها مع إسرائيل للعب دور في الوضع الفلسطيني.

إسرائيل، بقيادة نتانياهو، أعلنت في أيار/ مايو 2024 خطة جديدة بعد الحرب على غزة، تتضمن إبقاء القطاع تحت الاحتلال، ولكن بإشراف تحالف عربي يشمل الإمارات، السعودية، مصر، البحرين، الأردن والمغرب. وبينما ترفض الإمارات المشاركة في إعادة إعمار غزة من دون إقامة دولة فلسطينية، إلا أنها تدعم بقوة بعثة دولية لمعالجة الأزمة الإنسانية التي خلفتها الحرب.

الكويت، التي كانت يوماً رمزاً للدبلوماسية الإقليمية بفضل أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، تقف الآن في ظل غياب كبير عن الساحة. منذ وفاة الأمير في أيلول/ سبتمبر 2020، تراجعت الكويت عن دورها التقليدي في المنطقة، وكأن العالم تغير من حولها، تاركاً إرث الدبلوماسية القديمة خلفه.

ضرورة التعاون الإقليمي


الرسالة الأساسية واضحة كالشمس: التعاون والتكافل الإقليميان هما الحبل الوحيد الذي قد ينقذنا جميعاً من السقوط في هاوية الفوضى. أن تتجاهل معاناة جارك، أن تعتقد أن جدران الذهب والعزلة ستحميك من العاصفة، هو كأن تبني قصرك على رمال متحركة. الدول الغنية قد تعيش في وهم الأمان، لكن في عالم ينهشه الاضطراب، ليس بإمكان أي دولة أن تكون جزيرة منعزلة في بحر من الغليان.

السيادة الدولية للدول الفقيرة والمنكوبة لا تقل أهمية؛ فهي تحمل مسؤولية كبرى في إنقاذ نفسها والخروج من الفوضى التي تعيش فيها. لا أحد ينكر أن الحل يبدأ من الداخل، وأنه على هذه الدول أن تبني قدراتها وتواجه التحديات التي تقف في طريقها. لكن هذا المقال يسلط الضوء على دور الجيران، على تلك الدول التي تملك الثروة والقدرة على المساعدة. فالاستقرار لا يمكن أن يكون أحادي الجانب. التكافل والتعاون ليسا مجرد شعارات فارغة، بل هما الوسيلة الوحيدة لضمان مستقبل مشترك، أكثر استقراراً وازدهاراً.

السؤال الآن: هل نحن على استعداد لكسر هذه الأسوار التي نبنيها حول أنفسنا، لاتخاذ خطوات جادة نحو إصلاح العالم من حولنا؟ أم أننا سنظل نخدع أنفسنا بالاعتقاد أن العاصفة لن تصل إلينا، على رغم أنها على بعد خطوات؟. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال كتابة أفراح ناصر نُشر أولاً على موقع درج

03‏/10‏/2024

بعد مرور عقد من الزمان.. تقييم المسؤولية المشتركة عن مأساة اليمن



في الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول 2014 ، استيقظت العاصمة اليمنية صنعاء على تحول غير متوقع في الأحداث من شأنه أن يعيد تشكيل مصير البلاد. فقد استولت جماعة الحوثي المسلحة، المعروفة رسميًا باسم أنصار الله، على المدينة بعد مسيرة مُعدة سلفًا . وقد حدث الاستيلاء على المدينة على خلفية المظالم الشعبية إزاء فشل الحكومة الانتقالية للرئيس عبد ربه منصور هادي في معالجة الصعوبات الاقتصادية والفساد والشعور السائد بالتهميش . وفي محاولة لاستغلال هذا السخط الواسع النطاق، شكل الحوثيون تحالفًا استراتيجيًا مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وهي الخطوة التي دمجت مصالحهم مع نفوذه السياسي العميق الجذور. وسقطت المباني الحكومية بسرعة بعد دخول الحوثيين إلى صنعاء، حيث احتلوا البرلمان والوزارات والمنشآت العسكرية، واحدة تلو الأخرى. وبثت وسائل الإعلام رسائل جديدة تحت سيطرة الحوثيين، مما يشير إلى تحول كبير في السلطة.


لقد أحدث الاستيلاء السريع موجات صدمة في جميع أنحاء المنطقة. لقد راقبت المملكة العربية السعودية بقلق متزايد، حيث رأت في صعود الحوثيين امتدادًا للنفوذ الإيراني وتهديدًا متزايدًا على حدودها الجنوبية. في مارس 2015، عازمة على وقف المجموعة، أطلقت المملكة - بقيادة تحالف من الحلفاء الإقليميين بدعم من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة - عملية عاصفة الحزم . تلا ذلك سنوات من الصراع المكثف، حيث أصبحت الغارات الجوية والمعارك البرية حقيقة قاتمة لليمنيين. وعلى الرغم من الحملة العسكرية التي لا هوادة فيها للتحالف، فقد اكتسب الحوثيون واحتفظوا بالسيطرة على مساحة كبيرة، وأظهروا المرونة والبراعة التكتيكية. يعيش حاليًا حوالي 70-80 في المائة من السكان تحت سيطرة الحوثيين.

اليوم، تجد اليمن نفسها مجزأة بشدة، متورطة في صراع طويل الأمد يتميز بهدنات هشة، وتوترات متصاعدة، وأزمة إنسانية متفاقمة . ما بدأ كصراع داخلي على السلطة تطور إلى شبكة معقدة من المنافسات الإقليمية والحروب بالوكالة. دعمت المملكة العربية السعودية حكومة هادي المعترف بها دوليًا، بينما بدأت الإمارات العربية المتحدة، التي تعد جزءًا اسميًا من التحالف الذي تقوده السعودية، في متابعة مصالحها الاستراتيجية الخاصة من خلال دعم الانفصاليين الجنوبيين والسيطرة على البنية التحتية الحيوية. وفي الوقت نفسه، ازدادت همسات يد إيران في الصراع . خدم دعم طهران للحوثيين - من خلال الأسلحة والتدريب والدعم السياسي - هدفها المتمثل في توسيع نفوذها الإقليمي وتحدي الهيمنة السعودية. لقد أدى الرقص المعقد لهذه القوى المتنافسة إلى تفاقم الصراع وتعميق الانقسامات الداخلية ، وتحويل اليمن إلى ساحة معركة لمنافسات جيوسياسية أوسع.


في غياب أي حل واضح في الأفق، تظل احتمالات إقامة يمن موحد ضعيفة. ومع استمرار التشرذم الداخلي والتنافس على الطموحات الإقليمية، أصبح حلم السلام الدائم بعيد المنال. إن الصراع المستمر منذ عقد من الزمان يشكل مأساة مشتركة حيث أعطت جميع الأطراف ــ الفصائل المحلية والقوى الإقليمية على حد سواء ــ الأولوية للهيمنة السياسية على السلام، الأمر الذي أدى إلى إدامة العنف الذي لا ينتهي والذي تسبب في معاناة إنسانية هائلة.

استراتيجية الحوثيين وتداعياتها


قبل وقت طويل من أن ينتبه العالم في عام 2014، كانت جماعة الحوثيين متورطة بالفعل في حلقة من الصراع. بين عامي 2004 و2010 ، خاض الحوثيون ست حروب شرسة ضد حكومة صنعاء في سلسلة من المواجهات المعروفة مجتمعة باسم حروب صعدة. لم تكن هذه مجرد مناوشات، بل كانت صراعات مطولة تغذيها شبكة معقدة من الحرمان السياسي والإهمال الاقتصادي والمظالم الدينية. شحذت هذه السنوات من الحرب المستمرة الاستراتيجيات العسكرية للحوثيين وعززت بنيتهم ​​التنظيمية.

منذ عام 2014، عمل الحوثيون بشكل منهجي على تعزيز سلطتهم من خلال الحكم الاستراتيجي والتكتيكات العسكرية. وتبنت الجماعة نهجًا أكثر حسابًا لترسيخ نفسها في مؤسسات الدولة بدلاً من تفكيكها. كما أسسوا نظام حكم حيث يتم الاحتفاظ بالسلطة الحقيقية من قبل شبكة من المشرفين الموالين خلف واجهة من المسؤولين التكنوقراطيين. ومن خلال هذا النهج، تمكن الحوثيون من مركزية السيطرة، وتهميش الجهات الفاعلة التقليدية مثل زعماء القبائل، وتشديد قبضتهم على السلطة. وقد سهّل تحالف الجماعة مع الرئيس السابق صالح وعناصر من جهاز الدولة اليمني الضعيف هذا التعزيز.

لكن الحوثيين واجهوا مهمة شاقة تتمثل في تمويل حملة عسكرية مطولة. ولتغطية تكاليف الحرب وتكاليف الحكم، فرضوا ضرائب جديدة على الأراضي الخاضعة لسيطرتهم، مما أثقل كاهل الشركات والمواطنين . وعلى الصعيد العسكري، استغلوا فراغ السلطة، فاكتسبوا أراضٍ في شمال اليمن بينما واجهوا مقاومة في مناطق مثل منطقة مأرب الغنية بالنفط. وكجزء من تقدمهم، استولى الحوثيون على ترسانة الجيش الوطني ، مما عزز قدراتهم العسكرية بشكل كبير. ولكن وسط تقدمهم العسكري، ظهر جانب أكثر قتامة من استراتيجية الحوثيين. فقد جندت الجماعة، مثل غيرها من الجهات الفاعلة في الصراع اليمني، صبية لا تتجاوز أعمارهم اثني عشر عامًا ودفعتهم إلى خطوط المواجهة.

كما أجرى الحوثيون تغييرات كبيرة على النظام التعليمي، حيث قاموا بإصلاح المناهج الدراسية من خلال دمج أيديولوجياتهم الدينية والسياسية في دروس التاريخ والأدب والدراسات الاجتماعية، مما أثر على الجيل الأصغر سنا.

إن المجموعة مدفوعة برغبة عميقة في حماية وتعزيز التقاليد الشيعية الزيدية ، والتي يعتقدون أن حكام اليمن السابقين قد همشوها. بالنسبة للحوثيين، تمثل هذه التقاليد تراثهم الديني والسياسي، الذي يزعمون أنه تآكل منذ سقوط الإمامة الزيدية في عام 1962. وردًا على النفوذ الوهابي المدعوم من المملكة العربية السعودية، ينظرون إلى حركتهم على أنها دفاع عن هويتهم، باستخدام الممارسات الزيدية لتأكيد القيادة وإضفاء الشرعية على مقاومتهم للتهميش. كان رفضهم للتنازل عن المبادئ الأيديولوجية الأساسية، وخاصة فيما يتعلق بالسلطة المطلقة لزعيمهم عبد الملك الحوثي ، عائقًا أمام القبول الأوسع بين السكان. جعل هذا الموقف المتشدد من الصعب بناء الجسور مع الفصائل الأخرى وعرقل الجهود المبذولة نحو الحكم المستدام.

كان أحد الأسباب الرئيسية لقرار الحوثيين بالاستيلاء على العاصمة قبل عقد من الزمان هو معارضتهم لمقترح اللامركزية لعام 2013 الذي ناقشه مؤتمر الحوار الوطني المدعوم من مجلس التعاون الخليجي ، وهي خريطة طريق للإصلاح تم تطويرها في أعقاب الانتفاضة الشعبية في اليمن عام 2011 التي أطاحت بالرئيس صالح. اعتبر الحوثيون تبني نظام فيدرالي تهديدًا مباشرًا من خلال الحد من نفوذهم ووصولهم إلى الموارد الحيوية. مصممين على تجنب التهميش، شرع الحوثيون في حملتهم لتوسيع سيطرتهم الإقليمية إلى صنعاء وخارجها، مما أدى إلى تعطيل ما كان من المفترض أن يكون انتقالًا من نظام صالح إلى حكومة أكثر شمولاً.

ديناميكيات الائتلاف الحكومي


بعد سقوط صنعاء وفرار الرئيس هادي وحكومته إلى المملكة العربية السعودية، واجهت الحكومة اليمنية المنفية صعوبة في فرض سلطتها من الخارج. وبعد أن فقدوا معقلهم في العاصمة، اضطر المسؤولون إلى العمل من مدينة عدن الجنوبية وكذلك من الرياض في المملكة العربية السعودية. كما أدى البعد عن صنعاء، حيث كانت السلطة المركزية، إلى إضعاف قدرة هادي على الحكم بفعالية وتوفير الخدمات الأساسية لأمة تتأرجح بالفعل على شفا الانهيار.

وبرزت الانقسامات الداخلية مع اشتباك الفصائل الحكومية حول الاستراتيجيات، وتسبب الفساد المستشري في تآكل ثقة الجمهور. وفي الوقت نفسه، انقسم الجيش الوطني المعاد تشكيله، والذي كان من المفترض أن يكون جبهة موحدة ضد التمرد الحوثي، إلى فصائل ذات ولاءات منقسمة . وترك هذا التشرذم الحكومة اليمنية عُرضة للتقدم المستمر للحوثيين والفصائل المتنافسة الأخرى التي تتنافس على السلطة.

عندما تدخل التحالف بقيادة السعودية في الصراع، كانت مهمته تعزيز الحكومة اليمنية بالدعم العسكري والمالي واللوجستي. رحب المسؤولون اليمنيون في البداية بالتحالف على أمل أن يعيد الاستقرار ويصد الحوثيين المتقدمين. لكن الوضع تدهور بسرعة حيث استهدفت الغارات الجوية المكثفة للتحالف المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، مما تسبب في خسائر بشرية كبيرة بين المدنيين وأضرار جسيمة في البنية التحتية . ومع معاناة المجتمعات، تزايد الاستياء، وتلاشى وعد السلام. ومن عجيب المفارقات أن تصرفات التحالف عززت الحوثيين عن غير قصد من خلال تقليص الثقة في خصومهم. في أبريل 2022، تم الإعلان عن المجلس القيادي الرئاسي من الرياض، بدعم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ، والذي تم إنشاؤه لتوحيد الفصائل المناهضة للحوثيين. ومع ذلك، تسربت الانقسامات الداخلية للتحالف إلى المجلس نفسه، مما تسبب في احتكاك بين أعضائه، كل منهم متأثر بأجندات مؤيديه، وكسر الجبهة المناهضة للحوثيين.

دور الجهات الفاعلة الإقليمية


لقد أدى تورط القوى الإقليمية - المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران - إلى تعميق الصراع في اليمن. عازمة على الحد من التهديد الحوثي الإيراني، أطلقت المملكة العربية السعودية حملة على أمل تحقيق نصر عسكري سريع. ومع ذلك، استمر الصراع لفترة أطول بكثير مما توقعته الرياض، مما أجبر المملكة العربية السعودية في نهاية المطاف على إعادة معايرة استراتيجيتها. لم تعد الرياض تركز فقط على هزيمة الحوثيين في ساحة المعركة، بل بدأت في التفاوض على هدنة معهم وتشكيل تحالفات جديدة مع فصائل أخرى، والمساعدة في تشكيل قوات متخصصة جديدة ، ودعم أعضاء مختارين من المجلس التشريعي الفلسطيني لموازنة نفوذ الإمارات العربية المتحدة المتزايد.

تحولت الإمارات العربية المتحدة، التي كانت في البداية لاعباً رئيسياً في التحالف، لإعطاء الأولوية للمصالح الاستراتيجية في جنوب اليمن، وهي منطقة غنية بالموارد ومليئة بالموانئ الاستراتيجية. وإدراكًا للقيمة الاقتصادية والجيوسياسية لهذه المناطق، قدمت الإمارات العربية المتحدة دعمها للمجلس الانتقالي الجنوبي، وهي مجموعة تسعى بشدة إلى انفصال جنوب اليمن بسبب المظالم التاريخية والرغبة في استعادة استقلال جنوب اليمن، الذي كان موجودًا قبل التوحيد في عام 1990. سرعان ما اكتسب المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي مكنته الإمارات العربية المتحدة، السيطرة على أراضٍ ومصادر دخل مهمة، بما في ذلك الموانئ الرئيسية، مثل عدن وميون ، والتي كانت بمثابة شرايين حياة للتجارة الدولية والطرق البحرية. كان صعود المجلس الانتقالي الجنوبي سريعًا وأنشأ معقلًا يتحدى سلطة المجلس التشريعي الفلسطيني بشكل مباشر. كما دعمت الإمارات العربية المتحدة أعضاء محددين في المجلس الرئاسي .

وهكذا، دعمت السعودية والإمارات، الشريكتان المفترضتان في التحالف، فصائل مختلفة داخل اليمن، حيث سعى كل منهما إلى تحقيق مصالحه الخاصة مع القليل من الاهتمام بالجبهة الموحدة التي شكلاها ذات يوم. ومع خلقهما لمشهد عسكري مجزأ، أصبحت الاشتباكات بين قواتهما بالوكالة أمرًا شائعًا. منذ عام 2017، تسيطر القوات المدعومة من الإمارات العربية المتحدة على مواقع عسكرية رئيسية في جزيرة سقطرى اليمنية في بحر العرب، المتاخمة للقوات المدعومة من السعودية. استولت القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي على القصر الرئاسي في عدن في عامي 2019 و 2023 . وفي عام 2021 ، ساهمت المقاربات الإماراتية السعودية المتباينة في الاشتباكات القبلية وتعميق المشاكل الأمنية في محافظة شبوة.

من جانبهم، وجد الحوثيون حليفًا وثيقًا في إيران، التي بدأت في عام 2014 في تعزيز دعمها العسكري للمجموعة. قدمت إيران أسلحة متقدمة وتدريبًا وتوجيهًا استراتيجيًا، مما عزز بشكل كبير قدرات الحوثيين وقدرتهم على الصمود. لقد حول دعم إيران الحوثيين من جماعة متمردة إقليمية إلى قوة هائلة قادرة على تحمل الضغط العسكري لفترات طويلة. وعلى الرغم من مواجهة العديد من النكسات في ساحة المعركة، فإن ترسانة الحوثيين المعززة وبراعتهم التكتيكية سمحت لهم بالصمود في وجه الهجمات التي ربما كانت لتكسر مجموعة أقل تجهيزًا.

وقد ساعدت هذه الديناميكيات الإقليمية مجتمعة في تشكيل الحرب، حيث سعى كل طرف إلى تحقيق أجندته الخاصة - وإطالة أمد الصراع ومعاناة الشعب اليمني.

الخسائر البشرية


في الواقع، أدى الصراع إلى إشعال واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تدميراً في التاريخ الحديث، حيث تتحمل جميع الأطراف المسؤولية عن انهيار الخدمات الحيوية وانتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع . لقد أدى تدمير البنية التحتية إلى إعاقة الوصول إلى الموارد الأساسية، مما ترك الملايين بدون رعاية صحية أو مياه نظيفة أو تعليم. كما أدت الحصارات وانقطاع الإمدادات إلى تفاقم نقص الغذاء، مما دفع شرائح كبيرة من السكان إلى انعدام الأمن الغذائي الحاد . 

لقد تسبب تجنيد جميع الأطراف المتحاربة للأطفال والعنف المستمر في إحداث صدمة نفسية عميقة، مع عواقب دائمة على المجتمع اليمني. تواجه جهود الإغاثة الدولية قيودًا على الوصول ومخاطر أمنية ونقصًا مزمنًا في التمويل، مما يعيق بشكل كبير تقديم المساعدات. كما أدى تلاعب الفصائل المتحاربة بالمساعدات الإنسانية إلى تقويض الاستجابة الإنسانية بشكل أكبر مما ترك السكان الأكثر ضعفًا بدون الدعم الذي يحتاجون إليه بشكل عاجل.

توصيات


إن الطريق إلى السلام يتطلب أكثر من مجرد وقف إطلاق النار، بل يتطلب استراتيجية تعالج الأبعاد السياسية والإنسانية للأزمة. ويتعين على المجتمع الدولي أن يجتمع تحت هدف موحد، ويضغط على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران لإنهاء دعمها للفصائل المتنافسة. وإذا كان هناك أي أمل في الاستقرار، فلابد من حث هذه القوى على التراجع عن مصالحها الضيقة. وللمضي قدما، يتعين على المجتمع الدولي أن يدفع نحو استراتيجية متماسكة تعيد تركيز الجهود على استقرار اليمن ككل، وليس تفتيته أكثر.

ولكن الوحدة على الصعيد الدولي ليست كافية: إذ يتعين على الفصائل اليمنية نفسها أن تجلس على طاولة المفاوضات. ويتعين على الحوثيين والمجلس الرئاسي والمجلس الانتقالي الجنوبي وغيرهم الانخراط في حوار شامل، لا يكتفي بتوزيع السلطة بين الزعماء، بل يعالج المظالم الأساسية التي تدفع الحرب إلى الأمام. وفقط من خلال تعزيز الإجماع يمكن التوصل إلى خريطة طريق قابلة للتطبيق لمستقبل اليمن ــ خريطة تعكس تطلعات كل شعبه، وليس فقط أولئك الذين في السلطة.

ــــــــــــــــ
هذه ورقة بحثية ترجمها موقع يمن فيوتشر. البحث الأصلي بالانجليزية كتابة أفراح ناصر نُشر على موقع المركز العربي في واشنطن. 

23‏/09‏/2024

انقلاب الحوثيين: 10 سنوات من الظلام



موقع درج ، كتابة أفراح ناصر - ذهبت الى صنعاء قبل عامين، وكانت تلك زيارتي الأخيرة. كنت أتجوّل في شوارع العاصمة اليمنية، التي تبدو بعيني وكأنها عظام حيوان يُحتضر، نهشته النسور وتركته يتعفّن تحت الشمس.

ترى ملامح الاحتضار في عيون الناس، فالنساء مغطيات من الرأس إلى القدمين بالسواد، يتحركن كالأشباح في الأزقة، وجوههن مخفية لكن عيونهن مليئة بالقصص—قصص لن يروينها أبداً، لا هنا ولا الآن.

أولئك نساء لا مكان لهن في هذا “اليمن الجديد”، لا صوت، لا حقوق، والأطفال-يا إلهي، الأطفال! صور “الأطفال الجنود” معلّقة على جدران المدينة، يحدقون وكأنهم يسألونني: ما ذنبنا في هذه الحرب؟ لماذا تُزهق أرواحنا في أصداء نيران المدفعية؟

أما المعتقلون والمخفيون قسراً، أولئك الذين تجرأوا على الكلام أو وُجدوا في المكان الخطأ والوقت الخطأ، فلن يتحدث عنهم أحد إلا أقرباؤهم الحائرون بين حداد وأمل العودة.

أذكر زيارتي تلك وأنا أعيش الذكرى السنوية العاشرة منذ أن استولى الحوثيون على صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، ورفعوا رايتهم فوق المدينة المتداعية وأعلنوها لهم. عشر سنوات منذ انقلابٍ ارتدى ثوب الثورة ونسف ما تبقى من سلام هشّ في اليمن، عشر سنوات من الظلام، نحت خلالها الحوثيون اسمهم على كل جدار، وكل زاوية شارع، وكل همسة في الرياح.

قبل عشر سنوات، كان اليمن يتفكّك بالفعل، خيوطه ممزقة نتيجة عقود من الفساد والإهمال خلال حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ويواجه مشاكل سياسية واقتصادية عميقة، وكان في حاجة ماسة إلى إصلاحات سياسية ديمقراطية واقتصادية.

بدت انتفاضة 2011 ضد حكم صالح وكأنها بصيص أمل لتحقيق تغيير حقيقي والتحول إلى نظام ديمقراطي. في البداية، كانت هناك فرصة عظيمة، وكانت الانتفاضة تتجلى بسلميتها على رغم كل التعقيدات السياسية والقبلية في البلاد.

خارطة الطريق نحو الهاوية


لأن قدر اليمن أن يكون بجوار دول الخليج الملكية، تدخل الجيران في صياغة شكل العملية الانتقالية برؤيتهم المشوهة لمعنى الديمقراطية، فجاءت “مبادرة مجلس التعاون الخليجي” كاتفاق سياسي صاغته دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2011.

نصت المبادرة على خطة لانتقال السلطة، بحيث يتنحى صالح مقابل الحصانة من الملاحقة القضائية، وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة نائبه، عبد ربه منصور هادي، وحددت خارطة طريق للحوار الوطني والانتخابات.

وهكذا تبلورت العملية الانتقالية في ما سُمي بـ”مؤتمر الحوار الوطني”، كجزء من بنود المبادرة التي منحت الحصانة لصالح، وهي الكارثة التي يدفع اليمن ثمنها القاسي حتى اليوم.

بحلول عام 2014، تلاشى أمل التغيير في سحابة من الخيبة. فتدهور الوضع السياسي وفشلت العملية الانتقالية التي كان من المفترض أن تحقق الإصلاح السياسي، في تحقيق نتائج ذات مغزى بسبب التشرذم السياسي، والافتقار إلى الالتزام الحقيقي من جانب النخب السياسية في اليمن.

لكن السبب الأهم كان تحالف علي عبدالله صالح مع جماعة الحوثيين لإفشال العملية الانتقالية. وسط تلك الفوضى كلها، دخل الحوثيون بدعم عسكري من صالح كذئاب تشم رائحة الضعف، واقتاتوا على ضعف الحكومة والمظالم التي لم تُحل للشعب اليمني.

عام 2015، بدأ التدخل الخارجي، فقصف الجيش السعودي اليمن حتى يعود إلى جذوره المكسورة، ولم يعد الصراع يمنياً فقط، بل أصبح مسرحاً للتنافسات الإقليمية؛ كل صاروخ، وكل غارة جوية، بيان بلغة القوة والموت. شوارع صنعاء أصبحت مقبرة للأحلام، والسماوات مظلمة بالطائرات المسيّرة واليأس. الحوثيون، بتمسكهم بمواقعهم، حفروا أعمق، وأصبح خطابهم أكثر حدّة بدماء الرمال، محوّلين الأزمة إلى مرثية لا نهاية لها.

يتحدث الحوثيون عن الكرامة، لكن أفعالهم تعكس السيطرة والهيمنة، يسلبون حرية العمل، السفر، العيش من دون ظل رجل يتربّص فوق النساء كطيفٍ مظلم غير مرغوب.

لماذا كانت هذه الحرب؟ سؤال أسمعه يهمس أحياناً، يُصرخ أحياناً، لكن لا إجابة عنه أبداً. دخل الحوثيون هذه المدينة بأسلحتهم، يسيرون تحت أعلامهم الخضراء والحمراء، يهتفون شعاراتهم :”الموت لأميركا… الموت لإسرائيل… اللعنة على اليهود… النصر للإسلام” لكن كل ما جلبوه هو الموت لليمنيين.

يحمل الحوثيون بأيديهم أكثر من مجرد بنادق؛ يحملون روح أمة، ويعيدون تشكيلها، قطعةً قطعة، ملأوا عقول الشباب بأغاني الحرب والانتقام، يغذونهم بأوهام الاستشهاد بينما يسرقون منهم مستقبلهم، جيل يُحتجز رهينة أفكار لم يخترها، أُدلج باسم قضية أعلى وأقدس.

“مملكة من الرماد والغبار”


يدّعي الحوثيون أنهم يحكمون هذه الأرض الآن، لكن أي نوع من الحكم هذا؟ مملكة من الرماد والغبار، عهد من الصمت لا يكسره سوى صرخات من فقدوا كل شيء.

عشر سنوات من الاعتقالات التعسفية، وغرف التعذيب المخفية وراء جدران سميكة حيث تُخنق الصرخات بطبقات من الخرسانة والخداع. قتل شباب كثيرون تحت تعذيب لا يخطر لا على البال ولا على الخاطر.

ذلك القمع والتعذيب كله ترك أثراً كبيراً في نفوس البشر، لا يمكنك أن تمشي في أي حي من دون أن تشعر بالعيون تراقبك، عيون لا تعرف الرحمة، عيون تسأل: “هل أنت معهم أم ضدهم؟”، كأنما هناك خياران فقط في هذا العالم المليء بالرمادي اللامتناهي.


تنازلات سعوديّة بلا قتال


شيئاً ما حدث في الربع الأخير من هذا العقد على حكم الحوثيين، الذين يشددون قبضتهم على صنعاء ومن ثم البحر الأحمر، لم يتوقعوه، فالسعوديون، بغباء سياسي، منحوا الحوثيين تنازلات بلا قتال، ما أذكى نار الغطرسة في قلوبهم، ظنوا أنهم انتصروا، بدأوا يتحدثون بشكل أكثر صراحة وجرأة عن رؤيتهم لمستقبل اليمن، رؤية ليست للجمهورية، بل للثيوقراطية، حيث لا حق للحكم إلا لقلة مختارة، أبناء الحسن والحسين.

في كشفهم عن أنفسهم، ربما زرع الحوثيون بذور هزيمتهم. نسوا أن اليمن ليس مجرد مكان—إنه شعب، وهذا الشعب تذوق شيئاً لا يمكن محوه: طعم الجمهورية، طعم المساواة.

في 26 أيلول/ سبتمبر العام الماضي ، امتلأت شوارع صنعاء وما بعدها بصيحات التحدي، خرج الرجال والنساء العاديون، يلوحون بعلم اليمن الجمهوري، يغنون النشيد الوطني، مستعيدين روح الجمهورية التي قيل لهم إنها ماتت منذ زمن بعيد.

حاولت جماعة الحوثيين قمع تلك المقاومة التي لم تكن تتوقعها، محاولةً السيطرة على الموقف، ووعدت الجماعة بإنشاء حكومة “تكنوقراط”، فأتت بخبر تشكيل حكومة أسمتها حكومة “التغيير والبناء”.

ومع ذلك، لا يزال الحوثيون عازمين، يحلمون بإنهاء الجمهورية وإنشاء دولة شمولية. يريدون تشكيل اليمن على صورتهم الخاصة، حيث لا مكان للاختلاف والتنوع. بالنسبة إليهم، المساواة كلمة قذرة والتنوع جريمة. فقط للنقيّ المُختار الحق في الحكم، والبقية يجب أن ينحنوا أو يخاطروا بأعناقهم. يتحدث قادتهم عن “قائد مقدس”، حاكم “مقدس” يقف فوق الانتخابات، فوق النقاش، فوق الجميع.

كابوس “الحق الإلهي”


هذه ليست الجمهورية التي عرفها اليمن يوماً، بل إنه كابوس مغلف بحق إلهي. يخبرنا مسؤول حوثي بألا حاجة الى دستور، وأن القرآن فقط يمكن أن يوجهنا الآن، لكننا نعلم إلى أين يقود هذا: إلى جدران لها آذان، حيث كل همسة اعتراض هي حكم إعدام محتمل.

لكن حتى في هذا المشهد المظلم، هناك بريق من المقاومة والتمرد، وصوت الحياة التي ترفض أن تنطفئ، ربما نحن على موعد آخر مع تظاهرة أخرى في 26 أيلول. هناك سياسيون يمنيون وبرلمانيون وآخرون يتحدثون، أصواتهم مرتجفة ولكن واضحة، ضد انتهاكات جماعة الحوثي وضد التسلط الزاحف، يواجهون السخرية والتهديدات وحتى السجن، لكنهم يتحدثون على رغم ذلك. يعتقد الحوثيون أنهم يمكنهم إسكات هذه الأصوات، لكنهم ينسون: للصمت أيضاً طريقة في التحدث.

وماذا عن الشعب؟ بإمكان الحوثيين أن يسلبوا حقوقهم، أصواتهم، حرياتهم، لكنهم لا يستطيعون أن يسلبوا روحهم. تلك الروح المولودة من نيران ثورة 1962، التي لا يمكن إخمادها بسهولة، تبقى في شوارع صنعاء، في الأغاني والقصص التي تُنقل من الأم إلى الابنة، ومن الأب إلى الابن.

قد يظن الحوثيون أنهم يصنعون يمناً جديداً، يمناً يعكس أحلامهم الأكثر ظلمة. لكن لكل علم يصادرونه، يرتفع عشرة أخرى. لكل صوت يسكتونه، يتحدث مائة آخرون. قد يسحقون العظام، يكسرون الأجساد، ويسجنون الأرواح، لكن فكرة الجمهورية، فكرة اليمن الحر شيء لا يمكنهم قتله.

وهكذا تستمر المعركة، ليس فقط بالبنادق والقنابل، بل بالكلمات والتحدي والرفض الصامت الذي يرفض التنازل في سبيل الحرية. كشف الحوثيون عن أنفسهم، وبفعلهم هذا، أظهروا للعالم بالضبط ما يخشونه أكثر: يمن لا ينحني، يمن لا ينكسر.

تستمر الحياة بطريقة ما، حياة عنيدة سخيفة، ترفض أن تُطفأ. أراها في الرجل العجوز الذي لا يزال يسير بعربته المتجولة كل صباح، يبيع ما يستطيع أن يجده، حفنة من المانجو أو الرمان اليمني، أو بضع خضراوات ذابلة. أراها في الشابة التي تكتب قصائد لن تنشرها أبداً، تخبئها في طيات ثوبها كقنابل صغيرة من التحدي. أراها في ضحكات الأطفال الذين نسيوا ما فقدوه لأنهم لم يعرفوا شيئاً آخر. الحياة تستمر، تتشبث بحواف هذه الفوضى ككرمة تزحف على جدار، تمتد نحو شمس تريد أن تراها.

أتساءل، ماذا يبقى منا عندما نُجرد من كل شيء؟ عندما يكون الأمل نفسه رفاهية لا نملكها؟ ربما تكون الإجابة: الإرادة العنيدة التي لا تلين، أن نستمر في التنفس والتحرك، وكتابة قصصنا حتى عندما يجف الحبر، أن ننظر إلى الجنون من حولنا ونرفض أن نغمض أعيننا، أن نقول في وجه هذا كله: “ما زلت هنا”.

عشر سنوات من الحرب، من الانقلابات، من انتهاكات حقوق الإنسان التي تجعل حتى الشيطان يحمرّ خجلاً، ومع ذلك… الناس باقون. وربما هذا يكفي. أتجول في شوارع هذه المدينة المحتضرة، وأسمع صمت الجرحى. صمت ثقيل، رهيب، لكن بداخله، أعتقد أنني أسمع شيئاً آخر، همسة، دندنة، أغنية خافتة تقول، “لم ننته بعد”.

03‏/08‏/2024

واقع اليمنيين بين القمع الحوثي والاعتداء الاسرائيلي



في أحد صباحات صنعاء الهادئة الشهر الماضي، استيقظ يوسف ليجد منزله محاطاً بجنود جماعة الحوثي المسلحة. اقتيد من بيته من دون سابق إنذار، تاركاً خلفه أسرته في حالة من الرعب والقلق، لا يعرفون أين أخذوه، يوسف كان يعمل في إحدى وكالات الأمم المتحدة، ويسعى جاهداً، لتقديم المساعدة للمحتاجين، لكن هذا العمل النبيل جعله هدفاً للاستهداف الحوثي.

لم يكن يوسف (اسم مستعار) وحده، فقد شنّت قوات الأمن الحوثية سلسلة من المداهمات في صنعاء والحديدة وحجة، واعتقلت ما لا يقل عن 27 موظفا من بينهم يوسف، تم اتهامهم بالتجسس والعمالة وأقيمت جلسات استجواب ومحاكمات صورية تفتقر لأبسط المعايير القانونية العادلة.

هذه الاعتقالات قد تكون الأكبر لكنها ليست المرة الأولى، فمنذ استيلاء الجماعة على العاصمة صنعاء في ٢٠١٤ نفذت مئات الاعتقالات، العشرات من المعتقلين يواجهون خطر الإعدام، حيث تستخدم السلطات الحوثية محاكمات جائرة بتهم تجسس ملفقة، كوسيلة لقمع المعارضين السياسيين، وإسكات المعارضة السلمية، أو كأداة تخويف.

مؤخراً، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي اليمنية بحملة إلكترونية واسعة، أطلقها ناشطون يمنيون تحت وسم “المحاكمات الحوثية تصفية للخصوم”، تنديداً بأحكام الإعدام التي أصدرتها الجماعة بحق العشرات من المخطوفين في سجونها في صنعاء وفي عدد من المحافظات اليمنية، واستجابت الحملة لنداء العائلات التي يواجه أبناؤها خطر الإعدام، مسلطة الضوء على الانتهاكات المروعة التي ترتكبها الجماعة. ليس هناك لدى شرائح واسعة من الرأي العام العالمي والإقليمي اطلاع كاف على تلك الانتهاكات.

اليوم يصفق كثيرون خصوصاً في المنطقة العربية للعمليات التي شنتها جماعة الحوثي ضد اسرائيل. يغيب عن المتحمسين لما يقوم به الحوثي من خطف سفن واحتجاز رهائن وقصف بالصواريخ أن اليمنيين يعيشون بين مطرقة العنف الحوثي وسندان العدوان الإسرائيلي، مما يتركهم في حالة من الرعب وعدم اليقين حول مصيرهم مستقبلهم أحبائهم.

وفي خضم الصراعات الإقليمية والدولية المستمرة، تبرز الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على اليمن، كعامل جديد يزيد من تعقيد الوضع المتأزم في البلاد، بعد أن ضربت طائرة بدون طيار إيرانية الصنع أطلقها الحوثيون على تل أبيب في 19 يوليو/ تموز الماضي، مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة ما لا يقل عن 10 آخرين، قامت إسرائيل بهجمات انتقامية على “أهداف عسكرية” حسب الوصف الإسرائيلي في مدينة الحديدة الساحلية الغربية في اليمن، التي تسيطر عليها جماعة الحوثي المسلحة، فقُتل ما لا يقل عن ٧ أشخاص وجُرح على الأقل ٨٠ شخصاً، ومنذ بدء الحرب بين إسرائيل و”حماس” في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تُعد هذه الهجمات الإسرائيلية، هي الأولى على الأراضي اليمنية، مما يهدد بفتح جبهة جديدة في المنطقة، حيث تواجه إسرائيل وكلاء إيران.

هذه الهجمات استهدفت منشآت حيوية من مرافق تخزين الوقود ومحطة الطاقة في المحافظة، مما ساهم في تدهور في الأوضاع الأمنية والإنسانية في اليمن، وإلى المزيد من تعقيد الوضع السياسي بلا شك، ويثير تساؤلات حول تأثيرها على التوازنات الإقليمية والمحلية.

تعزيز نفوذ الحوثيين


أدت الهجمات الإسرائيلية إلى تغييرات جذرية في المشهد السياسي اليمني، فقد استغلت جماعة الحوثي، هذه الهجمات، إضافة إلى قدرتها على التصعيد العسكري بشكل عام، لتعزيز موقفها العسكري والسياسي، وساهمت الهجمات في بروزها كلاعب دولي، مما دفع السعودية بشكل أساسي، إلى تبني موقفاً أكثر حذراً في التعامل معها، لتجنب التصعيد الإقليمي، علاوة على ذلك، أدت الهجمات أيضاً إلى تعزيز شروط الجماعة في عملية السلام الهشة في اليمن، مقابل خصومها مثل السعودية والحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، في أي اتفاقية سياسية قادمة.

رأينا ذلك في رضوخ السعودية والحكومة للموقف الحوثي، ضد عدم المشاركة في أي عملية سياسية، من دون إلغاء القيود الاقتصادية التي قامت بها الحكومة مؤخراً ضد الجماعة، في يوم ٢٣ يوليو/ تموز أعلن المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن هانس غروندبرغ، أنه اتفق الطرفان المتحاربان على حل القضايا المالية المعلقة، كما اتفقا على إلغاء القرارات والإجراءات الأخيرة ضد البنوك من كلا الجانبين، والامتناع في المستقبل عن اتخاذ قرارات أو إجراءات مماثلة.

يبدو أن هناك ارتباطاً بين الاتفاق والضربة الإسرائيلية الأخيرة على ميناء الحديدة، الضربة فاقمت الوضع الهش في اليمن، حيث يُعد الميناء نقطة دخول حيوية لاستيراد الوقود والمساعدات، بينما يرى مراقبون أن الاتفاق هو عبارة عن خضوع الحكومة للضغط السعودي، لكن ليس هناك أي دليل رسمي على هذه المزاعم، وبكل الأحوال التغير في الموقف السعودي تجاه الحوثيين؛ الذي أصبح أكثر ليونة ويعمل على حل سلمي للنزاع، قد يؤدي إلى خلق فرص جديدة للحوثيين لتعزيز نفوذهم، والحصول على نصيب الأسد في أي اتفاق سياسي قادم، لحل الأزمة اليمنية بين الفصائل اليمنية على حساب التوصل إلى اتفاق سلام شامل عادل ودائم، يتماشى مع تطلعات كل اليمنيين.

تداعيات طويلة الأمد


التأثيرات البيئية للهجمات الإسرائيلية كانت كارثية، تصاعد الدخان لنحو يومين فوق الحديدة، جراء الحريق الهائل الذي تسببت به الغارات، وتسرب ما يزيد عن 50 ألف برميل من النفط إلى المياه الساحلية، مما أدى إلى تلوث مساحات شاسعة من السواحل اليمنية، هذا التلوث يؤثر بشكل مباشر على حياة الصيادين والمحاصيل الزراعية، ويهدد الأمن الغذائي لملايين اليمنيين، بالإضافة إلى ذلك، فإن الانبعاثات السامة الناتجة عن تفجير المنشآت النفطية، ستؤدي إلى زيادة معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية المزمنة في المناطق المحيطة، التي هي أصلا في ارتفاع مستمر، وفقاً لدراسة أجرتها وزارة الصحة في ديسمبر/ أيلول ٢٠٢٢ في صنعاء، تشير إلى أن عدد الإصابات المسجلة بالأمراض التنفسية بلغت على الأقل ثلاثة ملايين حالة.

التلوث البيئي في اليمن ليس مشكلة جديدة، لكن الهجمات الإسرائيلية أضافت بُعداً جديداً على هذه الأزمة، التسربات النفطية والانبعاثات السامة قد تستمر في التأثير على البيئة لفترة طويلة.

التأثيرات الإنسانية للهجمات، لا تقل خطورة عن التأثيرات السياسية والبيئية، فالوضع الصحي في اليمن، الذي كان يعاني من تدهور مستمر، يتفاقم بشكل ملحوظ، بسبب التلوث البيئي الناتج عن هجمات كهذه. اليمن يعاني بالفعل من أزمة صحية حادة، حيث تقدر الأمم المتحدة أن 80% من السكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وأن 50% من المنشآت الصحية تعمل بشكل جزئي أو متوقف تماماً، والوضع أكثر مأساوية في الحديدة، حيث تعاني أكثر من 70% من الأسر في الحديدة من الفقر، مما يجعلها واحدة من أكثر المناطق فقراً في اليمن، أضف إلى ذلك، البنية التحتية الضعيفة والخدمات الأساسية المتدهورة، التي تزيد من معاناة سكانها.

في مهب الريح


ليس بجديد على إسرائيل قصف أراضٍ عربية، فقد استهدفت لبنان وسوريا والعراق منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، الآن، انضمت اليمن إلى هذه القائمة، الرأي العام اليمني منقسم حول كيفية استدرجت جماعة الحوثي البلاد إلى مواجهة مع العدوان الإسرائيلي؛ البعض يستنكر هجمات إسرائيل بغض النظر عن الظروف، بينما يستنكر آخرون هجمات إسرائيل وجماعة الحوثي معاً.

تفتقر جماعة الحوثي إلى الشرعية، إذ أتت إلى السلطة بالقوة وانقلبت على مؤسسات الدولة، مما يخلق فجوة كبيرة بينها وبين إرادة الشعب اليمني، وتستغل الجماعة حب اليمنيين للقضية الفلسطينية لتحقيق أهدافها السياسية، لكن أليس من الأجدر بالشعب اليمني أن يحب نفسه ويهتم بمصالحه الوطنية أولاً؟

تعهدت جماعة الحوثي برد عنيف على إسرائيل بعد الهجمات على الحديدة، مما يعكس إصرارها على لعب دور دولي، ومع ذلك، تفتقر الجماعة إلى الخبرة السياسية الطويلة في الحكم، لتقييم المواقف ونتائجها بشكل صحيح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذا المقال كتابة أفراح ناصر، نُشر أولاً على موقع درج هنا

01‏/07‏/2024

أزمة الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري في اليمن



تخيل أن يتم أخذك بالقوة من منزلك أو مكتبك أو الشارع، وتختفي دون أي أثر. وليس لدى عائلتك أي فكرة عن مكان وجودك. هذا هو الواقع القاتم لآلاف الأشخاص في اليمن اليوم الذين يتم احتجازهم تعسفيًا دون أي إجراءات قانونية. وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات رسمية ومحدثة حول عدد المعتقلين، إلا أن الطبيعة المنهجية لهذه الاختفاءات القسرية تشير إلى أن الآلاف من الناس محتجزون بمعزل عن العالم الخارجي في جميع أنحاء اليمن.

وفقًا لمنظمة هيومن رايتس ووتش، اعتقل الحوثيون، الذين سيطروا على العاصمة اليمنية صنعاء منذ عام 2014، وأخفوا قسرًا العشرات من العاملين في المجتمع المدني وما لا يقل عن 13 موظفًا في الأمم المتحدة. ومن بين العاملين في المنظمات غير الحكومية الذين تم اعتقالهم امرأة وزوجها وطفليهما الصغيرين: طفل يبلغ من العمر 3 سنوات وآخر يبلغ من العمر 9 أشهر. وفي وقت سابق من هذا الشهر، قال مديرو العديد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية العاملة في اليمن في بيان مشترك: "نحن قلقون للغاية بشأن احتجاز سلطات الأمر الواقع الحوثية مؤخرًا لـ 17 عضوًا من منظماتنا والعديد من الآخرين المرتبطين بمنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية والمنظمات الأخرى التي تدعم الأنشطة الإنسانية". وأضاف البيان: "هذه الاعتقالات غير مسبوقة—ليس فقط في اليمن ولكن على مستوى العالم—وتعوق بشكل مباشر قدرتنا على الوصول إلى الأشخاص الأكثر ضعفًا في اليمن، بما في ذلك 18.2 مليون شخص يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية والحماية".

أخبرني أحد الأشخاص المطلعين في صنعاء أن العدد الفعلي للأشخاص الذين اعتقلتهم قوات الأمن الحوثية قد يصل إلى 60 شخصًا. ومع ذلك، يفضل بعض عائلاتهم عدم التحدث علنًا عن الاعتقالات خوفًا من الانتقام، على أمل أن يؤدي الصمت والسعي إلى التدخل أو التفاوض مع الحوثيين من قبل قادة المجتمع المحلي لإطلاق سراحهم.

وتقول نيكو جعفرنيا، الباحثة في شؤون البحرين واليمن في منظمة هيومن رايتس ووتش: "يستخدم الحوثيون الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري كأداة سياسية في وقت يفتقر فيه الأشخاص الذين يعيشون على أراضيهم حتى إلى أبسط الاحتياجات الأساسية". وتضيف: "يجب على الحوثيين الإفراج فورًا عن كل هؤلاء الأشخاص، الذين قضى العديد منهم حياتهم المهنية في العمل على تحسين بلدهم".

تصاعد الصراع المدني في اليمن بعد استيلاء الحوثيين على صنعاء في عام 2014 والتدخل العسكري اللاحق في عام 2015 من قبل التحالف الذي تقوده السعودية، بهدف إعادة الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي فرت حكومته إلى عدن في جنوب اليمن. ومع استمرار الصراع، أصبحت الاعتقالات التعسفية وحالات الاختفاء القسري شائعة بشكل مثير للقلق في أنحاء اليمن، وليس فقط في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. فقد قامت فصائل مختلفة بالإضافة إلى الحوثيين، بما في ذلك الحكومة اليمنية والقوات المدعومة من الإمارات، باحتجاز الأشخاص قسرًا لقمع المعارضة والقضاء عليها وإثارة الخوف بين السكان. غالبًا ما يكون الضحايا من المعارضين السياسيين والصحفيين والمواطنين الصحفيين وأصحاب الأعمال والناشطين والأكاديميين والقضاة والمواطنين العاديين الذين يُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديدًا. منذ عدة سنوات، وثقت التقارير المكثفة من المنظمات المحلية والدولية، بما في ذلك منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ولجنة خبراء الأمم المتحدة ومجموعة الخبراء البارزين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن اليمن، الانتهاكات المنهجية التي ارتكبتها جميع الأطراف المنخرطة في حرب اليمن. توضح هذه التقارير كيف يتم احتجاز المعتقلين غالبًا دون تهمة، وتعرضهم للتعذيب، وتلقيهم رعاية طبية غير كافية وحرمانهم من الاتصال بالعالم الخارجي. حتى أن بعض المعتقلين ماتوا تحت التعذيب.

إنّ هذه الانتهاكات لا تنتهك القانون اليمني فحسب، بل وتخرق الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي وقّعت عليها اليمن. كما أن الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري تنتهك الحقوق الدستورية، حيث تضمن المادة 48 من الدستور اليمني الحرية الشخصية والأمن. كما وقّعت اليمن على العديد من المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص على حماية الأفراد من الاعتقال والاحتجاز التعسفيين.

لقد خلقت الانتهاكات المتفشية لهذه الحقوق بيئة من الخوف والإفلات من العقاب حيث يخشى الناس التحدث أو المشاركة في السياسة في بلد مزقته سنوات عديدة من الحرب، ما أدى فقط إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الكبيرة في اليمن.

عندما عدتُ إلى اليمن في عام 2022، لأول مرة منذ عام 2011، رأيتُ بأم عيني جمهورية الخوف التي أصبحت عليها صنعاء تحت حكم الحوثيين. لم تعد المدينة التي أعرفها. كانت اللوحات الخضراء التي تحمل شعار الحوثيين—"الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود"—منتشرة في كل مكان، وبدا صوت زعيمهم عبد الملك الحوثي ينبعث من مكبرات الصوت في مختلف أنحاء المدينة. لقد حلت ثقافة صارمة تمجد الموت محل الأجواء النابضة بالحياة والأمل في صنعاء، عندما ساعدت الاحتجاجات الجماهيرية في عام 2011 في إنهاء حكم الرئيس علي عبد الله صالح القمعي الطويل آنذاك، حيث يتضح ذلك من الملصقات الحوثية التي تحمل صور "الشهداء"، وكثير منهم من الأطفال. وقد أضاف فرض الحوثيين القاسي لأيديولوجيتهم والأجواء القمعية التي خلقتها الزينبيات—الميليشيا النسائية التي تجوب شوارع صنعاء، كقوة استخباراتية وأمنية—إلى الشعور بالخوف واستحداث نوع جديد من القمع. وفي جنوب اليمن، لا تبلي المناطق الواقعة خارج سيطرة الحوثيين بلاء أفضل كثيرًا. لقد وثقتُ انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب، في المناطق التي تسيطر عليها القوات اليمنية المدعومة من الإمارات. ومع تفكك اليمن نفسها كدولة، فإن "اليمن الجديد" الناشئ هو جيوب من القمع والبؤس، حيث تطغى صراعات القوة على الحقوق الأساسية للناس.

لقد أدت كل هذه الانتهاكات إلى تفاقم الأزمة الإنسانية المروعة بالفعل. هناك العديد من العيوب في الاستجابة الإنسانية الدولية ودعمها لأعمال الإغاثة المحلية في اليمن، بما في ذلك التردد في إدانة مثل هذه الانتهاكات. لكن الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، على وجه الخصوص، يعني أن أسر المختفين غالبًا ما تفقد معيليها الأساسيين، مما يؤدي إلى صعوبات اقتصادية وزيادة الضعف. تتمزق المجتمعات مع اختفاء الأفراد دون أثر، حيث يؤدي ذلك إلى انتشار القلق وانعدام الأمن.

كل هذا انعكاس للتفكك السياسي في اليمن كدولة. في مواجهة الإفلات من العقاب في ظل سيطرة الحوثيين ومنافسيهم، ليس أمام اليمنيين خيار آخر سوى اللجوء إلى العالم الخارجي طلبًا للمساعدة. إن عُمان أو قطر، بتاريخهما في الوساطة الإنسانية في اليمن، يمكنهما تولي زمام المبادرة كلاعبين إقليميين رئيسيين لا يدعمان عسكريًا أحد الجانبين. لكن اليمن في نهاية المطاف يحتاج إلى حل سياسي قبل كل شيء، وهو أمر ضروري لاستعادة الاستقرار وإعادة بناء الوظائف الأساسية للدولة وضمان سيادة القانون. ولابد أن تعالج أي صفقة سياسية تتوصل إليها الأطراف المتحاربة الأسباب الجذرية لهذه الانتهاكات لحقوق الإنسان وأن تنشئ آليات المساءلة داخل هياكل الحكم في البلاد، إذا كان هناك أي أمل في تحقيق السلام المستدام والعدالة في اليمن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال كتابة أفراح ناصر، نُشر أولاً على موقع الديموقراطية الآن للعالم العربي هنا